في سبعينيات القرن الماضي كان شباب المعاهد والجامعات من إسلاميين ويساريين يتصارعون حول قضايا حقيقية، وكانت الحوارات غالبا ما تأخذ أبعادا أديولوجية وكلّ طرف يحلّل ويُناقش بأدوات توفّرها له مرجعيّته الفكرية أو السياسية.
أيضا داخل الأحزاب والجماعات كانت النقاشات تدور حول طرائق قراءة أو تأويل النصوص المرجعية، فلم يكن يمرّ موقفا أو رأيا دون أن يثير حوله السجالات والحوارات. فجيل السبعينات من أبناء التيار الإسلامي يعلم ما أثاره مشروع الأولويات داخل الاتجاه الإسلامي من نقاشات فرضتها اختلافات في زوايا النظر، وفي المُقاربات ومناهج التفكير. كذلك يذكر نفس هذا الجيل ما أثاره مشروع التأسيس من جدل بين فكرة تأسيس نقابة طلاّبية وبين مواصلة العمل بالمنظمة النقابية الطلابية التي وقع الانقلاب عليها من طرف الدساترة في مؤتمر قربة سنة 1972. والاجتماعات الماراطونية خلال العطلة الصيفية حول مواضيع تهتمّ بالشأن الجامعي والشأن السياسي.
نعم كانوا شباب لا يجيد التحذلق ولا يُحسن لغة الحسابات، يبني آراءه ومواقفه بالمواد التي توفّرها له مرجعياته الفكرية. يستميتون في الدفاع عن مواقفهم ولا يقبلون بالتسويات ولا يهابون الإقصاء ولا أحد يستطيع إمساكهم من مكان يوجعهم لأنّ الوجع خبزهم اليومي.
منذ الأشهر الأولى للثورة المباركة، لاحظ بعضنا ظاهرة جديدة أخذت تتمدّد شيئا فشيئا وتتوسّع أفقيا وعموديا لدى شباب الأحزاب السياسية خاصة بعد انتخابات 2011. شباب مرجعيته "آلة حاسبة" يحملها حيث ما حلّ وأينما وجّه وجهه. مواقفه لا يبنيها وإنما يحسبها وآراءه لا يؤسّسها وإنّما يزنها بميزان خذ وهات. شباب يتكلّم لغة السوق ويُحذق قواعد الصراع والتنازع حول المنافع والمصالح. لا يجد حرجا في استعمال مبادئ المنافسة الحرّة و"دعه يعمل دعه يمرّ"، حتى إن كان ثمن ذلك الدوس على القيم. فنجده يتجوّل من حزب إلى آخر حسب مؤشّرات البورصة السياسية، وينتقل من مؤسّسة إلى أخرى حسب مُتطلّبات سوق الشغل داخل الأحزاب.
حين ندقّق في محرّكات الفعل لدى هذا الشباب نكتشف للأسف أنه تعلّم صناعة التحذلق من الذين سبقوه إلى احتلال الفضاءات التي فتحتها الثورة، وسرقة استحقاقات أصحاب الثورة الحقيقيين والسطو على الثورة نفسها، هؤلاء الشباب وجدوا في ممارسات قيادات أحزابهم مرجعية يستندون إليها فاتخذوهم قُدوة وجعلوا منهم أنموذجا يُحتذى به.
بات المشهد السياسي يتزاحم بداخله شباب من الإناث والذكور في شكل مُربّعات بأضلع متساوية وغير مُتوازية، يلبسون نفس ربطة العنق ويضعون على رؤوسهم نفس النظّارة السوداء ويمشون نفس المشية ويستعملون نفس اللّغة وينطقون بنفس النبرة حتى تخالهم سرب حمام رغم أنّ من يقودهم حمامة سوداء تحسبها غرابا من كثرة سواد وجهها.
سرب من الشباب كثير الكلام وقليل الإنصات يسير دون مرجعية ويفعل دون وعي مؤسّس، يتلقّى موارده المادية والرمزية من منظّمات ومؤسّسات دُولية تدرّبه على الرطابة ولا تمدّه بآليات إنتاج الايدام.