حين وصلني خبر العملية الجبانة في شارع محمد الخامس بالعاصمة، هرولت لا شعوريا كما فعل كلّ التونسيين أو جلّهم نحو التيليكوموند لأستقي الخبر من المواقع الرسمية التي يُفترض أن تكون سبّاقة في طمأنة المواطنين والإجابة عن تساؤلاتهم الأولية.
أخذت أقفز من قناة إلى أخرى فكدت أن أقتنع أنّ ما وصلني مُجرّد إشاعة، حيث أنّ القناة الوطنية الأولى والثانية كانتا تبثّان حلقات مُسلسل مكسيكي وقناة نسمة تبثّ حلقة مسلسل تُركي والتونسية تقوم بتغطية برنامج رياضي أمّا قناة حنبعل فلم أفهم حتى نوعية البرنامج الذي هي بصدد بثّه. انتقلت بسرعة إلى قناة الجزيرة فصدمني المشهد وهول الفاجعة، فوسوست لي نفسي وقالت "قد تكون الجزيرة كما يتّهمونها تصنع الأحداث وتُفبركها وتُهوّلها"… فحوّلت وجهتي غربا نحو فرانس 24 فتأكّدت أنّ الأمر جلل الأمر جلل الأمر جلل…
في جميع الأحوال أمرتني نفسي (وهي في العادة أمّارة بالسوء) أن ألتمس الأعذار لهذا الإعلام التونسي الذي يُعاني أنفلوانزا اللاّمهنية ومُصاب بفيروس جنون البقر، وإن لم أجد عُذرا فعَلي أنّ أوجه سبّابتي نحو المُرتعشين الذين فوّتوا على الشعب فُرصة تاريخية للقضاء على "الغباء المُؤدلج" الذي يُعاني منه إعلامنا اللاّوطني. ثمّ سمعت وسوسة نفسي مرّة أخرى وهي تأمرني بتجاوز هذا الجدل الداخلي العقيم لأنّ الأمر جلل الأمر جلل الأمر جلل…
أجريت بعض المُكالمات الهاتفية وتأكّدت من سلامة بعض الأقارب والأصدقاء الذين تعوّدوا في ذلك التوقيت المرور من المكان الذي دارت في محيطه العملية الجبانة والخائنة، ومن كثرة الارتباك قمت بمُكالمة شقيقتي المُقيمة بصفاقس لأطمئنّ على سلامتها وسلامة عائلتها فذكّرتني أنّها ليست في تونس. وسوس لي الشيطان (وهو لا يوسوس إلاّ بالسوء) أن اجلس أمام جهاز التلفاز لأتابع مجريات الأحداث، وبما أنّ شيطاني موسوم بالتطرّف فهو لا يُغري إلاّ بأسوأ الأمور وأكثرها خطيئة فوضعت سبّابتي على رقم قناة بوهم الحنين فظهر لي العفريت "برهان بسيس" وهو يرتدي أبشع أقنعة الرداءة وبدا لي أكثر غواية من شيطاني المُتطرّف الذي وسوس لي بمُتابعة الأحداث من خلال قنوات جنون البقر.
فجأة شعرت بصفعة على ذاكرتي ةتراءى لي المنصف الشلّي صاحب برنامج المنظار، وتراقصت أمامي أحداث باب سويقة وخطر ببالي اسم عماد قمعون مُعدّ البرنامج سيء الذكر الذي ذهب ضحيته مئات الإسلاميين. حيث لعب هذا البرنامج دورا رئيسيا في تسميم الرأي العام وتشويه جماعة سياسية طالبت بحقّها في التنظّم والمُشاركة في الحياة السياسية. لقد كان وقع ذاك البرنامج المسموم أكثر وجعا وقسوة من حذاء الجلاّد وعصا أجهزة الإكراه. صوّر المنصف الشلّي وعماد قمعون الإسلاميين في أبشع صورة وقدّمها للرأي العام الشعبي البسيط ليقوم بمُحاكمتهم ومعاقبة عائلاتهم وأقاربهم بأن جعلهم منبوذين وموسومين بالتطرّف والإرهاب طوال العشريتين السابقتين للحظة 17-14.
نعم يا أيها المواطن المغدور !!! تلك كانت وظيفة الإعلام في تسعينات القرن الماضي، وللأسف يستمرّ الإعلام التونسي الذي لم يبرح مُربّعات الغباء الأيديولوجي ولم يتجاوز عقلية الانحناء لسلطة السياسة والمال في ممارسة نفس الوظيفة القديمة (الدعارة مدفوعة الثمن).
الإعلام التونسي يعيش خارج حركة التاريخ ولا يعلم أنّ العالم تجاوز العشرية الأولى من الألفية الثالثة والشعوب انتقلت من التصفيق لـــ "توجيهات الرئيس" إلى رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". مؤسّسات الإعلام الخاضعة لقوّة السياسة ولجبروت المال لم يعمل القائمين عليها بتحيين آليات العمل للأقلام المأجورة والأصوات الناعقة التي يقومون بتوظيفها.
فجأة صفعتني نفسي الأمارة بالخير ونبّهتني إلى أنّنا تجاوزنا تسعينيات القرن الماضي وأنّ "الشعب يريد" شفي من قابلية الإستحمار والإستبلاه، وأنّ الإعلام لم يعد يُمارس وظيفته القديمة بشكل نظامي في مواخير لها تراخيض رسمية بل أصبح يمارس الدعارة بشكل موازي على قارعة الطريق وفي الملاهي الليلية وفي الشقق المفروشة في حي النصر والمنار والمنازه.
عُدت من غيبتي الصغرى التي أجبرني عليها مشهد إعلامي يتصدّره برهان وخليفة ومريم ومعزّ وباسل ونوفل… واستفقت على صوت المُناضل العجمي الوريمي وهو يُمارس فعله الأبدي الذي تُلخّصه مقولة "مُكره أخاك لا بطل". فالعجمي منذ عرفته بالجامعة التونسية في ثمانينات القرن الماضي وهو يستبطن هذه المقولة ويدّعي أنّه يُمارسها. لكن لدي يقين لا يدخله الشكّ أنّه ليس مُكرها ولكنه بطل.