هناك مقولة عدمية ترى أن رئيس تونس تختاره فرنسا ويزكيه الشعب بالانتخاب معتقدا أن قد اختار رئيسه على هواه. نناقش هذه المقولة في سنة انتخاب الرئيس القادم لتونس بحثا عن مؤشرات سياسية تنهي الإيهام بالديمقراطية وحرية الاختيار التي يروج لها سياسيون محليون يبحثون عن شرعيتهم خارج الحدود قبل الاعتماد فعلا على شرعية الصندوق الانتخابي.
الصورة غير واضحة بعد فالأسماء بدأت تعلن تقدمها للمنصب في انتظار فتح آجال الترشح القانوني أمام الهيئة الانتخابية. ولكن كثرة الأسماء لن تؤسس لاختيار شعبي حقيقي بل ستكون هناك مفاوضات خارج صندوق الانتخاب للحصول على تزكية خارجية. وهذه الصيغة الجازمة مبنية على يقين بسيط. الأزمة الاقتصادية التي تجر البلد إلى الحضيض لن تسمح بقرار سيادي في الانتخابات. وهنا مدخل التفاوض وهي تسمية مخففة للإملاء السياسي.
درس 2014 المؤلم.
خاض التونسيون انتخابات الرئاسة للفترة 2014-2019 وانحصر الصراع في الدورة الثانية بين مرشح شعبي(الدكتور المنصف المرزوقي) ومرشح المنظومة القديمة (الباجي قائد السبسي). وكانت النتائج متقاربة رغم اختلاف الإمكانيات المادية لصالح مرشح المنظومة.
كانت حملة الدكتور المرزوقي قامت على فكرة تدعيم الاستقلال بدفع مطالب الثورة إلى التحقق في الواقع متجاوزا بذلك الصراعات الأيديولوجية القديمة. بينما أسس الباجي حملته على تغذية الصراع الداخلي بين تيار الحداثة والتيار الديني. وقد رجحت كفة الباجي في الساعات الأخيرة نتيجة أوامر بالتصويت المباشر له صدر عن زعيم حزب النهضة وهو ما لم يفهمه الكثير من المراقبين في حينه.
لفهم ذلك وجبت العودة إلى تجربة الترويكا حيث حكم حزب النهضة بالتعاون مع الدكتور المرزوقي رئيسا منتخبا من البرلمان. فتم محاصرة الحكومة وتم إذلال الرئيس والحط من قدره كشخص وكمؤسسة وهو ما أدى إلى محاصرتهما وإفشال عملها حتى أوشك الوضع على انفجار مدمر للبلد. وكانت عودة المرزوقي إلى الرئاسة مؤذنة بحصار جديد لحزب النهضة.
قيل حديث كثير عن أوامر فرنسية وصلت للغنوشي لتعديل التصويت ضد المرزوقي. ولكن ليس هناك دليل ملموس ونرجح أن اجتهاد حزب النهضة هو نتاج مخاوف حقيقية بإعادة البلاد إلى أزمة 2013 حيث أوقف الاتحاد الأوروبي صرف القروض لحين إقالة حكومة النهضة وهو ما تم.
أن يخشى حزب على حياة أفراده وقياداته أو على بلاده فيصوت خلاف رغبته وقناعاته معناه أن الاختيار لم يكن شعبيا بل كان هناك اختيار خارجي فرض بالقوة على التصويت. الضغط الخارجي (بقطع النظر عن الطريقة التي مورس بها) أسقطت الخيار الشعبي (المرزوقي) وفرضت خيار الخارج (الباجي). هل ستعاد التجربة في 2019.
لا شيء تغير عن 2014.
لا أناقش هنا حظوظ المتقدمين للمنصب ولكن أنظر إلى المشهد برمته. السنوات الخمس لحكم الباجي لم تغير شيئا من المشهد سوى استنفاد قدرة الباجي على البقاء أما المنظومة التي صعدته فقد جددت شبابها بوجه جديد وبمواقف قديمة، تماما كما كان بريد الدولة العباسية عندما يستنزف حامل البريد حصانه فيصل إلى محطة تغيير فيمتطي حصانا آخر ويركض. لكن الرسالة لم تتغير.
مؤشرات كثيرة على رغبة المرزوقي في العودة إلى الرئاسة بما يعيد انتاج وضعية 2014. مرشح استقلالي مقابل مرشح إعادة انتاج النظام(الاسم غير مهم) وأمام نزعة الاستقلال والسيادة التي يريد المرزوقي تكريسها سيقف الخارج بلا تردد مع مواصلة التبعية وإبقاء البلد سوقا مفتوحا للمنتجات الصناعية الغربية وبالتحديد الفرنسية. خاصة أن المعروض الآن إبرام اتفاقية الاليكا أو اتفاقية التبادل الحر مع السوق الأوربية والتي ستدمر ما تبقي من صناعة وطنية ومن انتاج زراعي. سيفوز برئاسة تونس من سيجعل هذه الاتفاقية واقعا.
سيشغل الجمهور بالتفاصيل (مثل حقوق المثليين ) لكن الانتخابات ستفرز رئيسا متوافقا مع الحكومة التي ستمرر الاتفاقية ويعود خطاب الاستقلال والسيادة إلى زاويته طاهرا عفيفا وفاشلا شريفا. لذلك لم نقرأ مصائر الأشخاص بل مصير وطن في معركة لا يملك أسبابها وأسبابها مشروع اتفاق على الاستقلال بين المكونات الداخلية من سياسيين ونخب فعالة. هذا لم يحدث منذ ما قبل الثورة وكانت الصراعات الأيديولوجية إسفين يدق في كل لحظة لكي يجعل الفرقة الداخلية جزء من أدوات تفتيت السيادة.
الرئيس جزء من مشروع وطني غير موجود.
الاستقلال والسيادة مطلب الثورة الذي لم يلب. كان هناك إجماع في التحليل على ضرورة دفع العملية السياسية نحو تجسيم الاستقلال من خلال عملية اقتصادية تأسيسية لفك الارتباط ولكن هذه المثاليات النضالية تلاشت في أتون المعارك البينية ذات الطبيعة الأيديولوجية ومن هناك تسللت منظومة التبعية لتعيد انتاج شروط بقائها من داخل الشرعية الديمقراطية أي عبر الصندوق(بعد أن أطردتها الثورة من الحكم) وأوصلت رئيسها وهي تستعد لإيصال حكومتها القادمة ورئيسها الجديد.
لم تتفق النخب على مبدأ الاستقلال والسيادة الذي يمكن أن يجسده رئيس مستقل يؤمن فعلا بذلك ويرمز إليه بفعله السياسي اليومي وهو المكلف بالسياسات الخارجية. لذلك نراها تستعد لانتخابات رئاسية وليس لها مرشح سيادي بل لها حسابات حزبية داخلية تجيز فيها الغدر ببعضها وتحطيم قدراتها في تنافس غير شريف وغير ديمقراطي يضحي بالوطن وبقراره السيادي ولن تنزعج كثيرا في الواقع من أن يملى عليها تصويتها لرئيس يتم اختياراه في الخارج وتتم تزكيته في الداخل بتمثيلية انتخابية مفرغة من الأمل في التغيير والتأسيس لسيادة لم تكتمل بوثيقة الاستقلال.