دخلنا السباق الانتخابي لسنة 2019 ويمكن لمن جر الناس إلى الصندوق أن يفاخر بانتصار أول، فقد سقطت كل مناورات التعطيل والتهرب والهروب، ولكن إلى أين يحملنا المسار وقد ترسخ؟ كل المؤشرات التي نلتقطها الآن تؤكد أن انتخابات 2019 لن تختلف عن انتخابات 2014 ولا عن انتخابات 2011، بل هي استعادة للصراع الهووي القديم بين تيار الحداثة بمختلف تكويناته والإسلاميين المنعوتين بالمحافظة والرجعية.
القوى السياسية المؤثثة للمشهد في تونس هي ذاتها إلا قليلاً والخطاب السياسي لم يتغير قيد جملة واحدة، وما زال التونسيون يقسمون بسهولة ويسر بشأن مسائل الهوية، بل إن التيار الغالب فيهم يستعيد هذه المعركة الهووية بحماس من لا يجد موضوعًا آخر ينشغل به أو يشغل به الناس، هنا تتجلى صورة التكرار الممل.
النخبة السياسية التونسية فاقدة للأفكار عامة وللقدرة على إنتاج الأفكار السياسية خاصة التي تعرض نفسها في أشواق الشارع ويرفض السياسيون تحمل المسؤولية الأخلاقية والتاريخية في تبنيها والدفاع عنها ثم تجسيدها بوسائل السياسة كما هو الحال في كل ديمقراطية تحترم فيها النخب الجماهير.
من أين نبدأ في كشف عورات النخبة هل من الذين يقومون كل صباح وفي برنامجهم اليومي الوحيد صيد الإسلاميين أم من الإسلاميين أنفسهم الذين يستدرون عطف الشارع بالهروب المريح أمام من يقوم لصيدهم فيعفيهم من تقديم أفكار وبرامج ترضي الناس وتخرجهم من معركة الاستئصال السياسي.
نكتة تأميم الملح التونسي
الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار هو أسبوع التبجح بتأميم الملح التونسي، فقد قال رئيس الحكومة إنه أمر بإنهاء الاتفاقية المبرمة مع المستعمر الفرنسي منذ 1949 بخصوص استغلال فرنسا لمسطحات الملح بتونس بسعر حدد حينها بفرنك فرنسي للهكتار الواحد، وظلت الاتفاقية تجدد ضمنًا كل عشر سنوات دون أن يتم طلب مراجعتها، وزعم رئيس الحكومة أنه فعل ذلك، لكن إزاء تبجح رئيس الحكومة قال رئيس لجنة الطاقة في البرلمان وهو نائب من النهضة إن عمل لجنته هو الذي أجبر رئيس الحكومة على طلب إنهاء الاتفاقية بما يعني تأميم الملاحات، وفي الأثناء قال حزب التيار الديمقراطي المعارض إن الرسالة الإنذارية التي وجهها لرئيس الحكومة بواسطة عدل تنفيذ (محضر) هي التي أجبرت رئيس الحكومة على إعلان إنهاء الاتفاقية بعد 10 سنوات، في اللحظة نفسها زايدت حركة الشعب بتأميم قناة السويس، فالمؤمم الشجاع لا يراعي شكليات قانون وضعه المستعمر.
وتبين لاحقًا أن كل الإجراء الذي سينفذ بعد 10 سنوات يتعلق بملاحتين بالساحل ذات مردود ضعيف لا تستحق كل هذه الضجة لكن الضجة كاشفة، فاسترداد الثروات الوطنية برنامج انتخابي يتنافس عليه الجميع، ويمكن أن يبشر هذا بخير ولكن يجب الحذر، فالذين تنافسوا على الملاحات لم يظهروا من الوعي ما يكفي لوضع عملهم ضمن إطار سيادي وطني يذهب إلى حد سيطرة الدولة على كل الثروات الباطنية والتصرف فيها دون العودة إلى جهات خارجية أو لوبيات داخلية متنفذة كما هو الحال في الفوسفات المعطل لأسباب يراها جميع السياسيين ويسكون عنها خوفًا أمام لوبي تعطيل إنتاج الفوسفات واستغلاله.
النكتة تنتهي هنا ولا تضحك التونسيين بل تحزن الكثير منهم، إذ يرون عجز النخبة المتصدرة للشأن العام، فتناور في مربعات صغيرة وتعجز عن دفع المعركة الوطنية على الثروات إلى مداها بما في ذلك المعارضين للحكومة من داخل البرلمان وخارجه.
العودة إلى معركة الحداثة ضد الدين
هذه المعركة أكثر مردودية انتخابية من معركة تأميم الثروات الوطنية المزعجة لأصدقائنا الفرنسيين وأول من يخوض فيها هو رئيس الدولة الذي طاف العالم ليتهم منافسه الحزب الإسلامي بأنه حزب رجعي يعادي حقوق المرأة ويتمسك بحرفية النص الديني المعادي لهذه الحقوق.
خطب بهذا في منابر أممية محرضًا العالم على طرف داخلي قد يربح الانتخابات، فللحداثة صيغة واحدة في تونس هي إلغاء النص الديني من حياة الناس والرئيس صار زعيمًا بهذا الأمر ولديه أمل في استعادة فئة من الناخبين يعتقدون فعلاً أن أولوية التشريع هي المساواة القانونية بقطع النظر عن توفير الأسباب لمساواة واقعية في العمل والتأجير.
منطقة التنازع الانتخابي هي النساء الحداثيات فعاملات الفلاحة لا علم لهن بما يدبج باسم المرأة في تونس وهن غير معنيات بمساواة في ميراث يعرفن أن أهلهن لا يملكنه لأنهن جميعًا فقيرات بنات فقراء، ويمنع في هذا الموضوع طرح السؤال عن الأوليات السياسية في المواسم الانتخابية، فالإشارة إلى حقوق المرأة العاملة في الريف يؤول في العاصمة الحداثية على أنه ذريعة رجعية تهرب من فرض أولوية المساواة في الميراث وبالتالي يصب في تأييد التيار الديني، النقاش هنا إقصائي لا يجادل.
هنا نقف على فراغ الأحزاب من البرامج الانتخابية المنتجة حقيقة لتنمية وتقدم مادي يشمل جميع الفئات، فالمعول إذن هو استقطاب هووي يقسم التونسيين إلى تقدميين ورجعيين، والرجعيون (الإسلاميون) ضد المرأة التي عليها أن تنتخب ضدهم، لا رهان بل استعادة الاستقطاب.
هذا البرنامج يحقق هدفًا واحدًا ليس منه التقدم بوضع المرأة الاجتماعي بل إرباك الإسلاميين وإظهارهم في الداخل كأعداء للمرأة والتقدم وفي الخارج كحزب ديني سلفي متخلف (رجعي) يظهر للغرب وجهًا تقدميًا لكنه يخفي في الداخل برنامجًا رجعيًا.
والهدف؟ انتخابي بالأساس قطع صلته بالداخل وبالخارج بحيث لن يمكن له التحرك في أي اتجاه غير الخضوع والقبول بإسقاط النص الديني في البرلمان وهو الذي شكل هويته السياسية، فإذا قبل خرج عليه نفس الداعين إلى إلغاء نص الميراث ليصرخوا بعدم أمانته على النص الديني، إذن لم نخرج من 2014 ولا من 2011 ولا من المعركة الهووية ضد الإسلاميين منذ ظهورهم.
ومستقبل تونس وتنميتها؟ هذا موضوع مؤجل ليوم الحساب.
هل يفلح الإسلاميون في إنقاذ الخطاب الانتخابي؟
مهما أنكر الديمقراطيون فإن حزب النهضة هو الذي جر تون إلى العهدة الانتخابية التشريعية والرئاسية وقد دفع لذلك ثمنًا كبيرًا من قوته في الشارع ومن شرفه السياسي، فتحالفه مع الباجي ثم مع الشاهد كان ضمانة الاستقرار الحكومي الذي لم يجد مناصًا من التقدم إلى الانتخابات، لكن بأي خطاب يدخل الحزب الانتخابات ولماذا نخصه بالانتظار؟
الساحة السياسية تؤهله للقيادة بما لديه من رصيد بشري منظم ولكن بالخصوص لفشل خصومه في فعل شيء يستحق الاحترام السياسي الذي تمنح من أجله الأصوات يوم الانتخاب، فللحزب موعد استثنائي فإما أن يرتقي بالخطاب السياسي ويخرج تونس من معركة الاستقطاب الهووي السخيفة أو أن يقع فيها فيرتد إلى وضع الضحية الذي لا يملك أي رصيد فكري ويعيش من بكائيات كانت مربحة ولكنه فات أوان توظيفها.
الشارع في حاجة إلى قيادة تلبي مطالبه وأشواقه، فإن لم يقم لها حزب النهضة متجاوزًا صراعات الهوية والبكائيات فإن هذه الانتخابات ستنتج حكومات أخرى فاشلة وتؤدي بالبلد إلى التهلكة، إنها لحظة وعي وليست لحظة غنيمة، سنذهب إلى الانتخابات لكن حتى اللحظة نحن في انتظار خطاب مختلف وبرامج سيادية.