تبدو الخارطة الحزبية اشهرا قبل الانتخابات في اكتوبر 2019 متحولة وحمالة جديد وهذا يحسب في المطلق للانتقال الديمقراطي . واذا كان عدد الاحزاب يبدو منتفخا نسبيا في حدود 216 رخصة حزبية فانه لا يعكس انتشارا واقعيا وملموسا على الارض ، مما يبرر السؤال: اين هي هذه الاحزاب؟ عمليا لا تتجاوز الاحزاب النشطة فعلا بالكاد عشرة احزاب. هي الديمقراطية السائلة اذن.
جدير بالاشارة ان اغلب هذه الاحزاب الكامنة هي سليلة احزاب معروفة وفي مقدمتها التجمع الدستوري المنحل. الباقي احزاب يسارية في اغلبها بفرعيها القومي والاشتراكي اما الاحزاب ذات الجذور او الصفة الاسلامية فهي قليلة العدد وبعضها حل نفسه تلقائيا واختار الانضمام الى الحزب الاقرب وهو النهضة.
بعض المكونات الميتا-حزبية من نمط الجبهات لم يعمر طويلا من قبيل الاتحاد من اجل تونس وغيره ولد ميتا مثل الجبهة التي جمعت حزب مرزوق وحزب الرياحي ذات يوم ولم يبق من المشاريع الجبهوية تقريبا الا الجبهة الشعبية التي انطلقت ب 12 حزبا في 2012 لتنتهي اليوم الى ستة احزاب تقريبا دون هياكل واضحة للعلن.
ومع اقتراب الانتخابات ظهرت الى العلن في الأونة الاخيرة مبادرات سياسية يتحاشى اصحابها صفة الحزب هم يقولون انها ائتلافات او مبادرات او حركة تجميع او التقاءا انتخابيا واغلبها يستهدف جمهورا محددا يسميه ويلتمس اقناعه من قبيل العائلة الديمقراطية او العائلة الحداثية او العائلة النقابية او العائلة الثورية . اغلب الرموز الظاهرة او التي واكبت الاجتماعات التاسيسية لها تجارب حزبية قصيرة هنا او هناك ينضاف لهم بعض النخب الجامعية التي تدخل العمل السياسي لآول مرة من بوابة انخراط المثقف اوبوابة الطموحات الشخصية في الترقي. من هذه المبادرات :
- مبادرة مواطنون
- مبادرة نشارك
- مبادرة فكرة
- يحي الشعب
- ائتلاف الكرامة
ويمكن ان نضيف ايضا مجموعة عبيد البريكي او حزب تونس الى الامام التي تبنت صفة حزب وهي تستحث فئة واسعة من غاضبي الجبهة الشعبية وخاصة من النقابيين الذين انتهت دوراتهم النقابية وبداوا الخروج العملي من الهياكل النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل "كنقابيين قدامى". وهذه الحركة تستبق نوايا الاتحاد الانخراط المباشر في الاستحقاقات الانتخابية وتراهن عليها كما تراهن على تجميع اليسار والدوائر القريبة من النقابيين.
كما يبدو ، لا يزال المشهد يتخلق و يتشكل لكنه يكرر نفسه تقريبا ويعيد انتاج نفس الاستقطابات القديمة التي خلقت هويات سياسية مقاومة للاستبداد وفتحت على نقاشات طويلة حول قضايا كبرى وطنية ودولية لكنها تجد صعوبة في الملائمة بين ضرورات الانضباط الحزبي والطموحات الشخصية والتعايش مع الاخر على قاعدة الحوار والمنافسة وبقيت المعارك الهووية ملاذات سياسية للتمترتس الاديولوجي والإقصاء الاجتماعي والوصم واستدعاء المعارك القديمة والمعارك الجيوسياسية التي لم تحسم في تاريخها او جغرافيتها.
ومع ذلك يبدو الى حد الان ان الانتقال الحزبي كشرط للانتقال الديمقراطي قد حافظ على اقدار من التوازن تواجه الردة نحو الاستبداد والانزلاق نحو الاحتراب والعنف المباشر والاختراق الخارجي الذي ينتفي معه الحس الوطني تماما. هناك توازنات في المجتمع و توازنات جديدة مع الدولة ومع المجتمع المدني وهناك صراع ارادات وقوى ضغط ونخب.
ولا ينفع انكار هذه الصراعات و تجريمها بل من المفيد نزع كل قداسة و صور نمطية عنها والتفاعل معها بما ينتج جوارا ويمنع عنفا بكل اشكاله المادية والرمزية. هناك كلفة لكل انتقال واذا تجنبنا الى حد الان و الحمد لله كلفة الدم (رغم الاغتيالات الاليمة وضحايا الارهاب المعولم ) فقد دفعنا كلفة من انهيار المقدرة الشرائية والشعور بالأمن والاستقرار وضبابية المشهد.
لا يمكن انكار ان شرائح واسعة من التونسيين قد فقدت الثقة في الاحزاب لكن هذا بدوره يحتاج فهما وتنسيبا فالأحزاب في النهاية هي صورة التونسيين عن انفسهم التي لم يتعودوا على رؤيتها. كما ان ترذيل السياسة و السياسيين هو صناعة دعائية وغوغائية اعلامية معلومة الاهداف. ولا يبدو ان استعادة هذه الثقة امر هين او قريب المنال وقد يستغرق وقتا لكن لا بديل عن الاحزاب سوى الاحزاب. ولاديمقراطية دون احزاب . نحتاج ان نسمي الاسماء بمسمياتها وان تكون لنا الشجاعة بان لا نتخفى وراء صفة صحفي او فنان او رياضي او مثقف او جمعية اوخبير لنقول كلاما حزبيا سياسيا.