أنا لست خبيرا استيراتيجيا حتى بالمعنى التونسي الركيك ، كما لا أدّعي اختصاصا بحال السودان الشقيق .. ولكنّ قيظ الاستبداد العربي يقتلني ، ويكاد يقطع أنفاسي ، فأخرج كل مساء أتسقّط أنواء الثورات ، وأتابع نسيم الحرّية يحمله خبر هنا أو هناك.. فاسمحوا لي تطفلي لأحدّثكم – من وجهة نظري – عن ربيع هذا البلد ، ربيع ننتظر أن تينع حقوله ، كما ينتظر والد أوّل ولد .
حزب أم طائفة ؟
يعدّ المواطن السوداني من أكثر العرب وعيا سياسيا وإقبالا على المشاركة السياسية . فالأحزاب السودانية عريقة ، وراكمت تاريخا طويلا من العمل السياسي . بعضها ولد قبل الاستقلال ، وبعضها يستمدّ هويته من تجربة مقاومة الحكم العثماني ثم البريطاني ... هذا الانتظام المبكر في الحياة السياسية جعل المجتمع السوداني في تركيبته أقرب إلى طوائف لبنان .
فالانتماء السياسي يبقى متوارثا في العائلة والقرية كما يتوارث اللبنانيون المذهب والطائفة على مرّ السنين . بل إن الولادة المبكرة جدا لبعض الأحزاب جعلت عددا منها يخلط بين السياسي والطائفي ، ولا يستقيم وجوده إلا بهما معا . فنشأت أحزاب للسنة والجماعة وأخرى للطرق الصوفية المختلفة ، في تزاوج مثير بين التراث والفعل السياسي المعاصر .
وفي المقابل يختص السودان بحزب شيوعي يخترق كل هذه الحدود الطائفية ليصنع لنفسه طائفة لذاته . وقد سلم تقريبا من حالات التشظي الكثيرة التي اعتاد عليها يسارنا العربي بالنظر إلى الخصوصية المجتمعية التي قام عليها شأن السياسة في هذا البلد . ولعل هذا ما جعله يتبوأ المراتب الأولى بين أقرانه العرب فضلا عن قدم نشأته .
ولكن المفارقة أنه بقدر هذه العراقة الحزبية ، قليلا ما يؤمن الساسة في السودان بجدوى هذا الانتماء ! فكلما أراد فصيل سياسي تقلد الحكم امتطى صهوة الجيش بدل الركون إلى صناديق الانتخاب ! .. وهذا يقودنا إلى ثنائية الأحزاب والعسكر .
أحزاب تحشد وعسكر يحكم
على مدى تاريخ السودان السياسي بعد الاستقلال ، كان العسكر هو دائما من بيده مقاليد الحكم بالبلاد ، باستثناء فواصل زمنية قصيرة غير ذات أهمية . والغريب أن العسكر لا يدعو نفسه طمعا في السلطة ، بل يتم استدعاؤه من قبل الأحزاب المدنية ذاتها . في سنة 1958 سلّم السياسيون الحكم لابراهيم عبود طوعا لينتهي حكمه بثورة شعبية بعد ست سنوات .
ولم يدم الحكم المدني الا خمس سنوات ، لتعقبه الانقلابات المدبرة من قبل الأحزاب المدنية . فانقلاب جعفر نميري سنة 1969 كان من صنع الحزب الشيوعي السوداني ، وانقلاب عمر البشير كان من صنع الجبهة الاسلامية لحسن الترابي . والغريب أن كلا الانقلابين قد انتهيا بانقلاب فعلي للأجير على المؤجر وللجنرال على السياسي ..
فقادة الحزب الشيوعي انتهت رحلتهم السياسية على يد النميري نفسه في غرفة الإعدام ، وقادة الجبهة أو المؤتمر الشعبي لاحقا حشروا في زنازين عمر البشير .. فكان الدرس الذي لا يغفل عنه عاقل : الحرية السياسية والعسكر لا يلتقيان ، والجيش لا تأمن جانبه .. وهنا ينتهي بنا الحديث إلى حراك ديسمبر الثوري ، والذي رفع لأول مرة الفيتو في وجه مجالس الانتقال العسكرية .
فالجيش مثل أشعب ، إن دعوته مرّة لوليمة ، سيدعو نفسه مرات دون وليمة !
18 أكتوبر السوداني أو ائتلاف قوى الحرية والتغيير
قوى الحرية والتغيير هي ائتلاف واسع بين أطياف سياسية ومدنية تختلف في ما بينها أشد الاختلاف . وحتى حركات الكفاح المسلح وجدت لنفسها مكانا ضمن هذه الفسيفساء التي يجمعها أمران : التوق إلى الحرية و التغيير ، ورفض هيمنة العسكر على سلطة القرار السوداني بعد الآن .
كانت حركة 18 أكتوبر التونسية لحظة خاطفة لتوحّد المختلفين زمن الاستبداد ، كانت لقاء الضرورة .. وما إن جاءت رياح الثورة حتى ندم الجميع على خطإ ما كان ينبغي أن يكون . واستبدلنا شراسة النضال ضد الاستبداد بشراسة في القتال بين الإخوة الأعداء .. فكان غباء سياسيا فظيعا ، فتح بابا عريضا لتعود منه الثورة المضادة عودة الفاتحين.
أما قوى الحرية والتغيير ، فيبدو أنها قد استخلصت من ماضي السودان ومن تاريخ ثورات الربيع العربي كل العبر . ولولا ائتلاف مماثل لما نجح السودانيون في إسقاط ابراهيم عبود ذات ربيع غابر .. . ولا يبدو أن عقد الائتلاف الواسع مقبل على انفراط . هو يعرف أن لعبة العسكر هي دائما فرق تسد . وهو يعلم أن المسألة مسألة موت وحياة .
وعلى الأقل فقد حدد لنفسه أجلا بسنوات أربعة كاملة . وهو عمر كاف لبناء لغة تعايش مشتركة ، وصياغة ميثاق للعمل السياسي القويم . قد يراه البعض زمنا طويلا ، ولكنه ضروري في حالة السودان الشقيق . وفي كل الأحوال فقد أضعنا في تونس ضعفها دون أن يقابل حساب البيدرما أملناه في حساب الحقل ..
أعتقد جازما أن الخطر الحقيقي هو خارجي في المقام الأول . فالتوازنات الجيوستراتيجية تجعل من حزام الاستبداد العربي المحيط بالسودان هو العدو الحقيقي للحراك الثوري . وقد بدأ فعلا في عملية الاحتواء . وينبغى أن نتذكر أن أول ثورة شعبية عربية انطلقت من السودان سنة 1964 ، وأن من حاول افشالها والعبث بها هو نظام عسكري آخر ، هو نظام عبد الناصر ... والتاريخ كما نعلم في صالح الحراك ، فهو لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة ! .