"الغنائميّة " صفة أَلْحَقها بعضُ أهل الاختصاص بالدولة في مجالنا العربي لكي لا يمنحها صفةً لا تنطبق عليها هي "الوطنية"، وقد أُسندت إليها بعد خروج جيوش المستعمر.
الغنائمية تُحيل على فشل "دولة الاستقلال " في تحويل الغنيمة إلى اقتصاد، كما تمنّٰى محمّد عابد الجابري في "عقله السياسي". ولذلك ماتزال هذه الدولة تراوح مكانها بين الريعية والزبونية والحبائبية. وكما تٓصْدُق هذه الصفات على الدولة تصدق على الرأسمالية المصاحِبة.
والغنائمية ليست بالضبط نمط إنتاج بقدرما هي منوال في "سياسة رأس المال والثروة". وفي مستوى الدولة هي أقرب إلى "سياسة" لا تنفصل عن "مصلحة عامة مُدَّعاَة"، ولا تنفصل، في مستوى الأفراد، عن "مصلحةٍ شخصيّة مُشتَهاة".
أزعم أَنِّي شهدتُ مرحلة "الكفاح الديمقراطي"، ثمّ أكرمنا الله بأن شهدنا مرحلة "البناء الديمقراطي"، رغم اتّجاهها ، في الشروط المعلومة، إلى " انتقال ديمقراطي" تكاد تنتفي عنه آثار البناء ونتائجه. وفي المرحلتين كان هناك غنيمة، غير أنّٰ المرحلة الثانية اتجهت هذه الغنيمة لتصبح "غنائية" بما هي حالة مترسخة وعادة ماضية ومكونا من مكونات الحياة وعنصرا في معادلة التبادل.
لم أعرف "الانخراط الحزبي" إلاّ في مرحلة "الانتقال الديمقراطي" ففي مرحلة "الكفاح الديمقراطي" كان هناك "الانتماء السياسي"، وكانت طبيعة العمل السياسي السري ووضوح الخصم تغطّي على الغنيمة بما هي مكانة ومكسب مادي وجاه. وهذا طبيعي ففي الأخوّة والرفاقية صراع إرادات وتسابق في تمثيل الفكرة وتصدُّرٌ للتعبير عنها. وكانت المخاطر المتعدّدة التي تستهدف المناضلين تُضفي مصداقية على هذا الضرب من الصراع الداخلي ولا تُسعف بكشف نقاط ضعفه وعدُولَه عن الأخلاق الرفاقية إلاّ في حالات نادرة.
سياقنا الجديد وما أتاحه من "نضال سياسي علني" كشف كثيرا من "الغنائمية الكامنة "، وزادت عودةُ المنظومة القديمة بثقافتها البائسة المنحدرة في معظمها من الاستبداد والغنيمة والغنائمية من توضّح الصورة بإشاعة الغنائمية وأخلاقها وتقاطعها مع الفساد ثقافة وسلوكا.
وقد هالني، فيما عشته من تجربة محدودة وما ألاحظه حولي في مشهدنا السياسي، سوسُ الفساد الذي انسرب في وقت قياسي إلى ما كنا نسميّه "الجديد" حتى شككنا في ما يفصل "العالمين" من حدود". وفي كل الأحوال فإنّ الجميع تقريبا "أبناء بورقيبة ومدرسته" وتبقى الفروق بيننا معلومة وإن اجتهدنا في توسيعها لبناء "هويات سياسية مستقلة" نحتاجها في هراشنا. والغنائمية، بمعناها الشامل الذي ذكرنا، وخاصة من جهة المال والجاه، مدخل مهم إلى ما عرفه مشهدنا السياسي والحزبي من تفتت وسياحة حزبيّة وسياسية وبرلمانية وأيديولوجية حتّى.
فعلا، عرفتْ حياتُنا تحوّلا من "الكفاح " إلى "الانتقال" في موضوع الديمقراطية، ومن "الانتماء" إلى "الانخراط" في موضوع الحياة الحزبية، ومن "الاستقرار العقدي" (نسبي) إلى "السياحة الإيديولوجيّة "، في موضوع الحياة السياسية (صارت ظاهرة: سياحة حزبيّة وبرلمانية مقرفة، داخل النمط وأسطورته المؤسسة خاصة).
كما عرفتْ تطوّرَ الغنيمة إلى غنائميّة، وارتبط توسع الغنائمية بعودة القديم وتعاظم نفوذ لوبيات الفساد والقصد إلى التطبيع مع الفساد وأخلاقه ورموزه الذين تصدروا المشهد بلا حياء منهم وبلا خجل وشعور بتحمّٰل المسؤولية ممّن انتسبوا إلى الثورة.
الغنائمية حالة تعرفها مرحلة "البناء الديمقراطي" لم تعد تقتصر على الدولة وإنّٰما صارت صفةً غزت عالم التحزّب والسياسة والثقافة والأكاديميا...وهو ما يسمح بالحديث عن "المتحزّب الغنائمي" و"السياسي الغنائمي" و"المثقف الغنائمي" و"الأكاديمي الغنائمي".. . كلّ ذلك صورةٌ متطورة من "متحزّب الغنيمة" و"سياسي الغنيمة" و"مثقف الغنيمة" و"أكاديمي الغنيمة"، التي نشأت ملامحها الأولى في مرحلة "الكفاح الديمقراطي ".
وإذا أردنا توسيع الآفاق فإنّ بسط الحريات الذي تحقق يمثّٰل شرطا لتأسيسها، وهو ما يجعل من "الكفاح الديمقراطي " مسارا متواصلا لا يتوقف عند مواجهة الاستبداد ويمتدّ إلى "البناء الديمقراطي" وإن ارتدّ إلى مجرّد انتقال .