نهج جديد من المقاومة المواطنيّة الثقافية المسلّحة في مواجهة احتلال مركّب
من عجيب الثورة السورية أنّٰ كل مساحة حرّية تفسح أمامها "تعيدها" إلى لحظة انطلاقتها الأولى وحقيقتها الثابتة: شعبية سلميّة مطلبها الحرية والكرامة. وكأنّ ما عرفه هذا الشعب الأعرق تحضُّرًا وتمدُّنا والأعلى وسامةً وجمالا وحسنَ صورة، مِنْ قَتْلٍ وتشريد وأهوال، شيءٌ لم يكن وفعلٌ بلا أثر.
هذا هو الشعور الذي ينتابنا مع استشهاد عبد الباسط الساروت. فهذا الشاب الذي عرف الثورة السورية منذ لحظتها الأولى وعمره دون العشرين لم يبتدع نهجا جديدا بقدرما اجتهد مع رفاقه في الوفاء لنهج الثورة رغم ما عرفه السياق السوري من تطييف وتسليح وتدويل واحتلال مركّب.
من ركام التطييف والتسليح وزرع الإرهاب والتدويل ، ومن واقع الاحتلال المركب، ومن أنقاض مدن التاريخ الإسلامي والانساني وحواضره الأولى (حماه، حلب، حمص)، ومن واقع خيانات القوى الوطنية والإسلامية المسلّحة، يصمد نهج الثورة السورية الأصيل وترتسم في أفقه ومن خلال سيرة عبد الباسط الساروت ملامح نهج المقاومة الجديد، هي مقاومة لتحرير البلد من طبقات الاحتلال المختلفة.
وهو ما سيطبع هذه المقاومة الوطنية بطابع تحرري تتكامل فيه فنون القتال لدحر المحتل مع سائر الفنون التي تعطي للبندقية والشعار واللحن والكلمة دورها في بناء صورة الإنسان في شروطه الإنسانية الكاملة.
هذا هو النهج العجيب الذي انخرط فيه عبد الباسط وعمل على ترسيخه رغم المنعرجات الخطيرة التي عرفتها ثورة الشعب السوري ورغم إصرار الخائفين منها على حرفها، كل حسب درجة خوفه وغايته من وأدها.
المِحنة التي عرفتها الثورة السورية لم تعرفها أخواتها من ثورات المجال العربي. فقد عرفت هذه الثورة "إنكارا شاملا":
- إنكار طبيعتها السلمية والإصرار على تطييفها وتسليحها ووصمها بالإرهاب عن طريق الجماعات التكفيرية المجلوبة من خارج سوريا والمحررة من سجون النظام بإرادة النظام، ليسهل تحويل "مسار الثورة" إلى "مسار حرب أهلية ".
- إنكار حقّ الشعب السوري المبدئي في الانتفاض في وجه بعث طائفي وراثي مستبدّٰ، بحجج واهية منها دور سورية الممانع وعلاقتها بالمقاومة.
- إنكار حقيقتها الموضوعية ، وأنها ليست أكثر من مؤامرة على دور سوريا القومي
إنكار طبيعتها العربية باعتبارها جزءا من ثورة المجال العربي وهدفها في جمعه قوةً اقتصاديةً وثقافية وسياسية وازنة.
نهج عبد الباسط، نهج الثورة السورية العظيمة، في حقيقته ردّ على كل هذا الإنكار الشامل ، ولكنه ردّ خاص على الملحقات الوظيفيّة لبشار وإيران من شبيحة وقوى متطيّفة، وهاتان الجهتان هما الأكثر إصرارا على "الإنكار الشامل".
وهذا مفهوم لهشاشة موقفهما ودرجة النفاق السياسي فيه، ولكونهما الأكثر تضررا وأذى من برزو وجه الثورة السورية الحقيقي وظهوره إلى السطح كلما أتيحت فرصة للحرية والتعبير الحر. فالصهيوني- الأمريكي وملحقاته الخليجية لن يحرجه بروز وجه الثورة الحقيقي . الحرج المنكّه بالعار على مدّعي الممانعة (سيُركم غير مأسوف عليه) وراعي المقاومة( سيعتذر يوماو إن بعد فوات الاوان) . صرنا أمام ما يشبه القاعدة: بمجرد أن يتحرّر هذا الريف أو تلك القرية أو هذه المدينة تنبثق آليا شعارات اللحظات الاولى التي بها انطلقت الثورة…حقيقة مذهلة ، كثيرا ما يتم التغاضي عنها.
سورية اليوم محتلة، وهو احتلال مركّٰب ، إِذْ كان من الطبيعي أن يلتقي المنتصرون على الشعب السوري وثورته على احتلال التراب السوري واقتسامه، قبل أن يتقاتلوا عليه كلٌّ يريد توسيع المربع الذي يحتلّ.
سورية اليوم محتلة، فإلى جانب الاحتلال الداخلي ( الاستبداد وملحقاته المتخلفة ) يوجد الاحتلال الخارجي ( إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية ، روسيا، إيران ، تركيا). ولكن الأهم أنّٰ ملامح مقاومة مواطنيّة مسلحة تجتمع في الشام وقد عبّر عبد الباسط الساروت باستشهاده عن مرحلة من مراحلها.
وستكون مقاومة على غير مثال، وستأخذ من الوقت والجهد الكثير، فهي لا تواجه نظاما دمويا مستبدا، بقدرما تواجه خلاصة لـ"نظام دولي" سليل الحرب العالمية الثانية وتوازناتها وامتداداتها، ويمثل اشتباكه مع ثورة المجال العربي آخر تعبيراته الإستراتيجية.
توضُّحُ المعركة بحدّ ذاته خطوة مهمة نحو الغايات البعيدة…وليكن النصر على بعد جيل أو جيلين أو أجيال