هي أطروحة أو وجهة نظر تبلورت عندنا في سياق الثورة وتوضّحت مع الانتخابات التأسيسية، وتأكدت مع الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها البلاد وآخرها الانتخابات البلدية الجزئية في باردو.وشهد لها ما عرفه المجال العربي مع الربيع. وقد كتبنا هذه الفكرة وعبرنا عنها في أكثر من سياق.
وتقوم هذه الأطروحة على:
- اعتبار النهضة أهمّٰ شروط تأسيس الديمقراطية في تونس، وبدونها يغيب هذا الشرط الرئيسي ، ونكون أمام القديم بدون منافس ( نظام بن علي من غير بن علي).
- النهضة جزء من الإسلام السياسي بحدوده التي كنا ضبطناها، في أكثر من مقال. وتمتد في السياق التونسي بين تجربة حزب التحرير يمينا (يمثّٰل حدًّا سياسيا بين النهضة والسلفية: الخطاب شريعي، والثياب إسلام سياسي) وتجربتي " الإسلام اليساري" ( الاسلاميين التقدميين ، مع فوارق كنا أشرنا إليها ) "واليسار الإسلامي" ( المود: يمثّٰل حدًّا سياسيا بين النهضة واليسار الماركسي، وله علاقة بالخطاب الإسلامي العروبي منزوعا من الخطاب الشريعي).
وقد اجتهدنا في ضبط هذه الحدود في المجال العربي، ففي مصر يمثّٰل الإخوان قلبه، يحدّه من اليمين تجربة الجماعة الإسلامية ومراجعاتها المعروفة ، ومن اليسار التجربة الناصرية فهي عندنا من الإسلام السياسي( تيار عروبي غير قومي يختلف عن البعث في العلاقة بمرجعية الإسلام وفكرة الدولة /الأمة، ومن ثم في متصوّر العروبة).
الخطاب هو المعطى الأساسي في رسم الحدود، فقد عرف المجال العربي ثلاثة خطابات منذ حركة الإحياء الأولى: الخطاب الشريعي مع الوهابيّة والسنوسية، والخطاب النهضوي مع حركة الإصلاح، والخطاب السياسي مع ظهور الإخوان المسلمين. وهي في نظر غارودي "أول محاولة فذّة لعيش الحداثة إسلاميا".فلم لا يكون الاسلام السياسي هو حداثة العرب المسلمين السياسية؟!!
- الإسلام السياسي ، بهذه الحدود، هو ظاهرة تاريخية ، لها بداية ولابدّ من أن ترسو عند نهاية. وقدّرنا أن "العدالة والتنمية" تمثّٰل إعلى مراحله، ويرتبط بلوغ هذه المرحلة بتأسيس الديمقراطية. ومعها تنتفي الظاهرة لتحلّ في هوية جديدة هي جزء من الهوية الوطنية والمنظومة الديمقراطية. وعليه فإنّه إذا استمر وجود الإسلام السياسي فإنّ وجوده شاهد عملي على تعطّٰل تأسيس الديمقراطية. والسياق التونسي يوضّح هذه القضية. فحركة النهضة لم تبلغ بعد مرحلة العدالة والتنمية لسببين:
ذاتي ويتمثّل في العجز عن تخطّي الخطاب الشريعي، رغم محاولات الفصل بين الدعوي والسياسي وفكرة الاختصاص. وتجاوز الخطاب الشريعي لن يكون إلا بتحويل النص المؤسس إلى مفاهيم ، وهو الخطوة الأولى للخروج من "الإحياء" إلى "التأسيس"( في هذا تفصيل).
وأمّٰا السبب الموضوعي فيتمثل في الفيتو الغربي على الاسلام السياسي لوعي الغرب بما يمثله الإسلام السياسي من "شروط تأسيس الديمقراطية العربية"، وتأثير هذه "الديمقراطية المختلفة" على نفوذه ومصالحه التقليدية( في هذا السياق نفهم الانقلاب في مصر وتعطيل الانتقال إلى الديمقراطية، في سائر أقطار الربيع ومن بينها تونس نفسها). ومع هذا الفيتو ، الذي وجد له مرتكزا في مشهدنا السياسي من خلال القديم ومشكلاته وتحالفاته.
- هذه الأطروحة تيسّر مقاربة مشهدنا السياسي ، من زاوية مستقبل مسار تأسي الديمقراطية، وآفاقه على ضوء الانتخابات القادمة، وميل النهضة يمينا، ومحاولاتها استعادة خطاب الاستضعاف المتخبّطة، وغياب اليسار الاجتماعي، ونزوع "يسار الفكر" يمينا في مستوى الخطاب السياسي ليلتقي في أقصى اليمين مع "عبير" في مناهضة الاسلام السياسي والعلاقة بالسيستام، وما تعرفه الجبهة الشعبية من انفصال حمّة عن الوطد وإمكانية استعادة مرجعية 18 أكتوبر( مؤشر الانتباه إلى خطأ قطع الطريق والخروج من وظيفيّة ذليلة).
وجهة النظر هذه مناسبة للوقوف على حقيقة الانقسام الاجتماعي الحاد الذي كان سببا في الثورة والعجز عن رأبه ، بصفر إنجازات بعد ثماني سنوات، وأثره الكارثي على بنية الاقتصاد (رسمي/موازي) وعلى بنية السياسة بوجود مجالين سياسيين :
رسمي يعرف ديمقراطية تمثيلية استعاد القديم مفاصلها بلوبياته وماله الفاسد ومافياته المتمفصلة مع قوى مضادّة لتأسيس الديمقراطية والمواطنة والسيادة، ومجال سياسي هامشي يختزن "ديمقراطية تشاركيّة" ،
ودور ما عرف بالقوى الديمقراطية الاجتماعية وفي مقدمتها تجربة الحراك المهدورة، والتي كان منتظرا أن يكون دورها التاريخي جر الديمقراطية التمثيليّة باتجاه الديمقراطية التشاركيّة فالمباشرة، وهذا هو المضمون العملي في مواجهة القديم وسيستامه، وليس مجرد شعارات عامة.
الحراك يشترك مع بقية الأحزاب في انتمائه إلى المجال السياسي الرسمي غير أنّٰ خطابه "هناك" في المجال السياسي الهامشي. هو عملية ميلاد "اليسار الاجتماعي الجديد" المهدورة، وفرصة تأسيس التوازن السياسي المطلوب من داخل "الجديد" بين يمين ليبرالي عموده الإسلامي السياسي ( لن يبقى هو بعد استواء الديمقراطية) ويسار اجتماعي نواته القوى الديمقراطية الاجتماعية(بقايا الحراك، قسم من الجبهة، مكونات قومية واسلامية وماركسية مواطنيّة...بعض من التيار الديمقراطي ، إذ أنّٰ الحزب في تقديرنا يتجه في مجمله اجتماعيا إلى اليمين ). فالمشهد اليوم وسط بلا يسار.
أفق كل هذا هو الانتظام المحلي الذي سيكون إعادة صياغة للدولة ومجال نفوذها، وتنخّل للفكر السياسي التقليدي وتجاوز لثنائياته ومن بينها ثنائية يمين/يسار....ذاك الأفق هو التأسيس وهو أفق دونه "نوق وفجاج ودماء" مثلما قال الشاعر...فهل للحلم من مجال؟!!