أثار خروج تونس على السوق المالية العالمية الأسبوع الماضي لتعبئة 700 مليون أورو تخوف عديد الأطراف وخاصة عددا من الخبراء الاقتصاديين والماليين وأحزاب المعارضة من مزيد إغراق البلاد في المديونية.
ولئن يندرج هذا القرض في إطار قانون المالية لسنة 2019 حيث تم ضبط حاجيات البلاد من التمويل الخارجي في حدود 10.1 مليار دينار مقابل تسديد 9.3 مليار دينار كخدمة دين، على أساس تحقيق نسبة نمو في حدود 3.1 بالمائة، فان ضعف نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي التي بلغت خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية 0.1 بالمائة مقارنة بالثلاثي الرابع من سنة 2018، يدفع إلى التساؤل عن مدى قدرة حكومة الشاهد على تحقيق أهداف ميزانية الدولة وتوفير الموارد المالية المبرمجة في قانون المالية لسنة 2019 لتسديد خدمة الدين من جهة، وتأمين نفقات التصرف والتنمية من جهة ثانية.
ما يعمق هذا التساؤل ويبعث على التخوف من مزيد انزلاق البلاد نحو التداين الخارجي تواصل تفاقم عجز الميزان التجاري خلال السداسي الأول من السنة الجارية وتواصل تفاقم العجز الجاري الذي يترجم حاجة البلاد من التمويل بالعملة الصعبة.
فحسب نشرية المعهد الوطني للإحصاء الصادرة في شهر جوان 2019 فقد بلغ عجز الميزان التجاري 15.9 مليار دينار وهو رقم مفزع ويعكس وضعية مالية غير مسبوقة بما يؤشر إلى تجاوز هذا العجز مستوى 30 مليار دينار في موفى السنة الحالية في ظل تواصل هذا الصمت الرهيب لحكومة الشاهد تجاه نزيف التوريد وانهيار الصادرات التونسية.
واستناد إلى نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للثلاثي الأول من السنة، وعجز الميزان التجاري خلال السداسي الأول من السنة، وانزلاق قيمة الدينار، يبدو أن المشهد الاقتصادي والمالي في البلاد مرشح إلى مزيد التأزم خلال الفترة المتبقية من السنة والتي تتزامن مع المواعيد الانتخابية التشريعية والرئاسية القادمة باعتبار خارطة الطريق التي تعمل حكومة الشاهد على تنفيذها في إطار قانون المالية لسنة 2019 التي استندت إلى وثيقة قرطاج 1 المنبثقة عن برنامج الإصلاحات الهيكلية الكبرى لصندوق النقد الدولي والذي صيغ على أساس توصيات قمة دوفيل لمجموعة الثمانية المنبثقة عن إعلان دوفيل حول "الربيع العربي" المنعقدة بباريس يومي 26 و27 ماي 2011 .
ولئن يبدو أن انخراط حكومات ما بعد الثورة في مسار الاقتراض من الخارج جاء من منطلق عجز ميزانية الدولة وهشاشة الاقتصاد الوطني وتراجع المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية إلا أنه بالرجوع إلى إعلان دوفيل نكتشف أن مجموعة الثمانية ووراءها فرنسا قد فتحت أمام تونس ومصر انذاك جميع أبواب التمويل الخارجي الثنائية منها ومتعددة الأطراف من صندوق النقد الدولي إلى البنك الإسلامي للتنمية والبنك الإفريقي للتنمية والبنك الدولي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير (رغم أن مجال تدخل هذا الأخير هو البلدان الأوروبية فقط) فضلا عن تفعيل سياسة الجوار في نسخة جديدة على مقاس بلدان "الربيع العربي" وذلك مقابل التزام ما أطلقت عليها ببلدان الشراكة بضمان "استمرارية الدولة" بما يعني الالتزام بعدم مراجعة الاتفاقيات الدولية الثنائية ومتعددة الأطراف مثل اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي لسنة 1995 والتعهد بالإبقاء على نظام اقتصاد السوق وفتح أسواقها في إطار مناطق التبادل الحر.
وقد جاءت ديباجة إعلان دوفيل في صيغة دعوات من مجموعة الثمانية إلى صندوق النقد الدولي وبنوك التنمية متعددة الأطراف والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير بمساعدة بلدان الشراكة "الملتزمة بذلك" على "تلبية احتياجاتها التمويلية"، كما دعت الاتحاد الأوروبي إلى إطلاق وتطوير سياسة الجوار وتكريس التقارب التنظيمي في اتجاه أقلمة التشريعات الوطنية مع التشريعات الأوروبية ، والاتحاد من أجل المتوسط إلى المساهمة في بعث مشاريع "ملموسة"، والمنظمات الدولية للعمل مع الأحزاب السياسية والمعارضة السياسية ...كما تعهدت المجموعة بتقديم دعم إضافي في صيغة هبات وتمويل برامج تدريب …
لقد نجحت مجموعة الثمانية في إحكام حصارها على السيادة الوطنية من خلال تسهيل نفاذ الحكومات إلى التمويل الخارجي عوض الاعتماد على القدرات الذاتية وتنمية الاستثمار الوطني وتعزيز القدرات الإنتاجية الوطنية والاعتماد على الاستثمار الأجنبي من خلال قانون الاستثمار الذي جاء بتوصية من قمة دوفيل إلى جانب قانون تحسين مناخ الأعمال، وقانون النظام الأساسي للبنك المركزي الذي جاء بتوصية من صندوق النقد الدولي، وقانون السلامة الصحية وجودة المواد الغذائية بتوصية من الاتحاد الأوروبي في إطار آلية الدعم المالي الكلي وهو أحد آليات سياسة الجوار …
إن اللجوء إلى الاقتراض الخارجي لا يمكن أن يكون قدر تونس إلا أن الهرولة وراء الحلول السهلة والجاهزة "المسوقة" من قبل جهات خارجية تعمل على حماية مصالحها في السوق التونسية أدخلت البلاد في دوامة الاقتراض والتبعية وارتهان الأجيال القادمة للخارج بما يضع الأحزاب السياسية المعنية بالانتخابات القادمة أمام مسؤوليتها التاريخية والوطنية لإخراج البلاد من قبضة لوبيات الداخل والخارج والتحرر من "اكراهات" واهية وذلك بالعودة للشعب والقطع مع المغالطات والتضليل والتعتيم.