في الصحة الوقائية ، يمكنك أن تنجح دائما في محاربة جيوش الفيروسات والميكروبات التي لا تُرى . أما في السياسة ، فلا ينفع حذر من قدر ، ستفشل غالبا في مقارعة جرثومة المال الفاسد ، هذا العدوّ الزئبقي : يكون في مدى النظر ، ولا تطاله قبضة البشر !
في بلدنا ، احتاج المال الفاسد في البداية إلى أداة بعيدة التأثير . فكان الإشهار السياسي . واحتاج إلى خبير ، حسن التدبير ، فكان السيد نبيل القروي ! .
لقد سطا الخطاب الإشهاري على الخطاب السياسي في مشهد ما بعد 14 جانفي حتى أصبح بديلا عنه . وشيّأ مكونات الساحة السياسية حتى أصبحت قيمتها جزء من قيمة سوق الاستهلاك ، وجزء من الحركة الربحية لرأس المال . وهو تحوّل خطير يكاد يذهب بكل المكاسب الهشّة التي حققها ربيعنا الثوري سنة 2011 .
وقد ولغ الخطاب الإشهاري في دم السياسة حتى جرّدها من كلّ قيمها . فعل ذلك تحت مظلة تطوير خطابها وتنقيته من شوائب الطوباوية ، والمُثُل المستحيلة ، حتى غدت الخديعة الإشهارية هي جوهر العمل السياسي .. خديعة محكمة النصب ، تستثمر في غبائنا واحتياجنا ، في كبتنا وميولنا ، وتبتعد بنا عن كلّ المُثُل .
بعد أن تحوّل الخطاب السياسي إلى جزء من خطاب السوق ، أي تابعا لقوّة رأس المال ، أصبح العمل السياسي في " نظامنا الديموقراطي " هو فنّ التلاعب بالمواطن والوطن ، وآلية فعالة لاغتصاب حرية الأفراد واستعبادهم . إنه فنّ العنف اللّين الذي يأخذ منك كل شيء دون أن تتفطّن لأي شيء ! .
وإذا كان الإشهار مرتبطا وظيفيا برأس المال ، شرعيّه وفاسده ، فلا جدال في أنه لا يبتغي شيئا عدا الربحية ، ولا يسعى جهده إلا إلى الاحتكارية . ومتى اصطبغ الخطاب السياسي بجينات الإشهارالاقتصادي فسيغدو مجردا من كل ضوابط أخلاقية بالضرورة ، هذه الضوابط التي قد تحدّ من فاعليته ، وتقف عائقا في طريقه ... هكذا أصبح الخطاب السياسي في أيامنا بدون مضمون أخلاقي ، حتى أثناء حديثه عن الأخلاق . ولا ينقص من قيمته أن تنعته بالكذب . فجوهره ممارسة فعل الكذب ! .
والخطيئة الحقيقية ليست في هذه الممارسة ، بل في تصديقها .! .
ثم أدى هذا التحوّل العميق في الخطاب إلى تحوّل في المعنى لمفهوم النضال السياسي . فلم يعد يعني التضحية بالنفس من أجل المبادئ ، ومن أجل خير الجماعة ، بل التضحية بالجميع من أجل مغانم السلطة . هذا المعنى يتمّ نحته تدريجيا في اللاوعي بلغة مخاتلة حتى أصبحنا نسمع من ينعت المناضلين القدامي بخريجي السحون وفاقدي الأهلية السياسية ! .
من عالم الإشهار الاقتصادي دخل السيد نبيل القروي إلى عالم السياسة ، دخل مسلحا بكل المعارف والتقنيات الحديثة التي درسها وخبرها كدارس وكرجل أعمال . وقد نجح في تحويل الخطاب السياسي إلى خطاب إشهار اقتصادي ناجع . بدأ بعرض خدماته على النظام السابق من خلال اقناعه ببعث قناة خاصة تكون أداة فعالة من أجل تطوير اللغة الإشهارية للنظام والتي كانت تعتمد على وكالة الاتصال الخارجي .
ثم جاءت الثورة ، فبرز السيد نبيل القروي كأكثر الوجوه تأثيرا في المشهد السياسي من خلال قناته أولا ومجموعة شركاته الإشهارية ثانيا .. واستطاع بفضل أدواته الإعلانية الترويج لبضاعة منتهية الصلوحية اسمها : الباجي قايد السبسي . فصنع منه في البداية رئيسا للحكومة ، ثم رئيسا لحزب كبير ثم رئيسا للبلاد .. إنه أكثر الفاعلين في مشهد ما بعد 14 جانفي بلا مراء ، وهو صانع الساسة وقاتلهم في نفس الوقت .
عدو الحالة الثورية بامتياز ، ومبيّض وجوه النظام السوداء بكل اقتدار.. حارب المنصف المرزوقي من خلال الإشهار حتى أسقطه من الحكم ، وزيّن صورة السبسي حتى رفعه إلى قصر قرطاج .. واحتاج إلى زعامات صغيرة تخدم مشروعه فصنع من حمة الهمامي زعيما أرستقراطيا ، ومعارضا نبيلا .. وهو تحوّل غريب في عالم اليسار الذي لم يقبل باللعبة الرأسمالية فقط ، بل جعل من نفسه أداة من أدواتها ! .
السيد نبيل القروي هو رجل الظل الحقيقي في السياسة التونسية . إنه وراء كل شيء . لقد كان أحد المهندسين الرئيسيين لفرانكشتاين النداء . ولما عجز عن احتوائه وتطويعه لأهدافه أثخنه بكل أنواع الشقوق حتى قضى نحبه . ومنذ ذلك الوقت قرّر أن ينتصب لحسابه الخاص وليس الغير .. قرر أن يبيع صورته بدل الآخرين ، وأن يكون هو الرئيس ! .
إن أعظم إنجازات السيد نبيل القروي على الإطلاق هو أنه حوّل مضمون الإشهار السياسي من البرامج إلى الجسد . فأدوات التسويق اعتمدت أساسا على اللباس والجاذبية الجنسية لرجل السياسة . وقد تمّ استعمال المرأة – ككل مادة اشهارية – من خلال استحضار الخطاب التحرّري وتضخيمه . وليس غريبا أن لا يؤمن السياسي نفسه بهذا الخطاب . فلا يتعدى الأمر مجرد إشهار !
في مشهد ما بعد 14 جانفي لم توجد قط ممارسة سياسية ، بل عقود اشهارية يتم تنفيذها وفق جدول متفق عليه ومعلوم .
وفي مشهد ما بعد 14 جانفي ، هناك درس مستفاد : يمكنك أن تكتب أجمل الدساتير ، وأن تخطّ أعظم القوانين .. ولكن لا فائدة من كل ذلك إذا كان بيتك تسكنه الذئاب والضباع وكل قاطع طريق .
لقد احتمينا بالنصوص ، فدخل اللصوص ... وهذه ملهاتنا ! .