لنتفق أولا على أن مصطلح اليسار – كما اليمين أيضا - هو مثل الهلام يتقلص ويتمدد بحسب الايديولوجيا ، وأن الثابت في هذا الهلام هو أن كل يساري يرسم حدود يساريته كما يريد .. ولنتفق ثانيا أنه نتيجة لغياب ترسيم واضح للحدود بين المصطلحين ، كثيرا ما يوضع اليسار في موضع اليمين ، والعكس صحيح ، وأن العدالة الاجتماعية ، أصبحت - عن حق او باطل - مطلب اليمين واليسار على حد سواء بما يجعل الفصل بينهما من قبيل الفصل بين التوأم السيامي!.
وفي الحالة التونسية ، نلاحظ أن اليسار التاريخي قد تقادمت مقولاته ، واستعصت عليه الحاضنة الشعبية حتى تشرذم وانتهى به الأمر تائها بين طريقين :
- الجنوح إلى اقصى اليمين مع المحافظة على بعض الأزياء الدالة عليه كشال فلسطيني مثلا أو قبعة من مرسيليا .
- الكفر بالواقع السياسي برمته في انتظار اكتمال شروط الثورة ، والتي وعلى إثرها سيقتحم الشعب الجائع كل المكتبات العامة والخاصة بحثا عن نصوص مقدسة لرواد اللاسلطوية أو لماركس ولينين ... كمصابيح لا ينطفئ لها فتيل.
الأول هو اليسار الشعبوي وقد كف عن أن يكون حتى يمينا ليبيراليا بالمعنى السياسي للكلمة ، وانغمس بكليته في حياكة الدسائس لقطع الطريق امام اليمين الديني حتى ولو كان ثمن ذلك التحالف مع الكومبرادور وبقايا النظام القديم .
هذا اليمين المتستر باليسار ضعيف الإيمان بالقيم الديموقراطية ، وملخص برنامج مرشحه للرئاسيات مثلا هو فقط ترؤس جميع مجالس الوزراء .
والثاني هو اليسار المهدوي ، هذا اليسار الذي اعتزل فتنة الديموقراطية " التمثيلية " باعتبارها جاهلية جهلاء . واكتفى بالجلوس على الربوة في انتظار فيضان وادي الثورة في عز الصيف !. هو يؤمن بالمقولة التالية : بدأ اليسار غريبا وسيعود غريبا ، فطوبى للغرباء ... وطوبى هنا ليست حجرا في الجنة ولكنها تكثيف لمصطلح الطوباوية ! .
السلفية الجهادية والسلفية المدخلية هي مصطلحات ذات استعمال مزدوج ، لليمين ولليسار .
الغالب على واقع الجدال السياسي أن كلمة " يساري " أصبحت مثل الأسماء في سجلات الحالة المدنية ، يمكنك أن تجمع ثروة ، أن تتحالف مع أرباب المال والحظوة ، أن تسرق عرق العامل لديك .. وتبقى دائما يساريا ثوريا . ولكن السيد نبيل القروي أراد كسر هذه القاعدة ، ومن خلال قوة إعلامه يحاول السطو على سجلات الحالة السياسية .
قد يتهمنا البعض بأن الحديث عن نبيل القروي في هذا السياق هو من باب التشويه والحقد اليميني . ولكن الشعبوية هي ظاهرة متعددة الجنسيات . والحديث عن آلام الشعب دون وضع حلول هو فعل سياسوي آثم ، كمن يتصيد اللذة الحرام مقابل معسول الكلام ..
فلنسأل ما هي الفروق الفعلية بينه وبين حمة الهمامي مثلا ؟ كلاهما عبر عن روح التضامن المتبادل أمام استبداد الدولة ، كلاهما دخل السجن لأسباب سياسية ، كلاهما اظهر ألمه أمام الاعلام لرؤية قفة خالتي مباركة فارغة وإن تطوع أحدهما فقط لملئها في المناسبات الدينية ، كلاهما تهزه ألحان الشيخ إمام الثورية ، كلاهما وقف خاشعا أمام أضرحة الزوايا ، كلاهما وثق في روح الباجي وحكمتها الوطنية ، كلاهما مترشح للرئاسية .. وكلاهما خاوي الوفاض من كل البرامج الاقتصادية الثورية .
ولكن الفرق الوحيد هو أن نبيل القروي أبعد أثرا ، وأقرب إلى مزاج الشعب.. وهو إلى ذلك متدين تدينا شعبيا أكدته كل الصور الملتقطة على حين غرة !.
إنها صورة كاريكاتورية .. هذا صحيح . ولكنها معبرة عن انهيار فعلي لشعارات اليسار إلى حد ان رجلا مافيوزيا أصبح بإمكانه استعارتها ذات انتخابات .. وإلى حد أن العامي لا يكاد يرى فروقا فعلية بين هذا وذاك.