كنت قد وعدت الصديق عبد الرزاق الحاج مسعود بالإفصاح عن بعض ما أختلف فيه معه بخصوص موقفه من ترشح قيس سعيّد "المفاجئ" للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، بعد إمساك مطول عن الخوض في تقلبات الأوضاع السياسية في بلدي، وها أنا أفعل في بعض ملاحظات سريعة قد تساهم في "البيان" و "التبيين" ... ولا أخالني في موقع المعلم أو الناصح حتى، له ولا لغيره:
1) كانت كل المؤشرات منذ اندلاع ثورة 17 – 14 وما تلاها تؤكد أن التحولات الكونية ذات التأثير المباشر والسريع على المحلّي لم تكن تطال البيئة والثروة والسياسة ... الخ فحسب، بل طالت بالأساس منظومات القيم الموحِّدة للجماعات والمبرِرة لبقائها وضمان اجتماعها.
ولكن عددا كبيرا من نخبنا كانوا يتجاهلون (أو يجهلون) تلك التحولات / الزلازل القادمة، ويصمّون آذانهم عن هديرها المتصاعد. بل أكثر من ذلك اختاروا أن يكونوا جزءا من أنظمة التشكل والسلطة (موالاة ومعارضة) ينتفعون بامتيازاتها المادية والرمزية على مر العقود والقرون (البعض يسمي ذلك اليوم – تجاوزًا – السيستام).
2) تميزت فترة2011 – 2019 (يُطلق عليها بعظهم الثورة، وآخرون الانتقال الديموقراطي) بالكثافة والسرعة في الأحداث والتصورات والتشكيل وإعادة التشكيل، ونسمّيه هنا بتعقّد الوهم واستتباعاته = عملية ضخمة من الكشف عن هشاشة البناء برمّته: هشاشة القواعد التي قامت عليها الدولة والمجتمع منذ عقود عديدة قد تصل الى حدود الدولة الحسينية. وذلك الكشف هو ما جعل مساحة "اليُتْم" والضبابية والإحباط النفسي تزداد .. تتوسع .. تتعمق. وتلك كانت المزية الكبرى للثورة.
3) ما عرفته الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها من "اقتتال" غير مباشر (ولكنه عنيف) وما أفرزته من صعود (يُقال لنا وهمًا إنه مفاجئ) للأستاذ الجامعي قيس سعيّد و"المافيوزي" نبيل القروي لم يكن سوى تعبيرة بسيطة وحاسمة لمسيرة طويلة من التفكك وانهيار فاضح سريع لمنظومة قيم معادية في جوهرها للإنسان مطلقا.
4) بهذا المعنى لا فائدة أصلا من الخوض في الشخوص (من أين أتوا ؟ كيف وصلوا ؟ من وراءهم ؟)، لا يعدو ذلك إلا محاولة لاستدامة الوهم ومحاولة يائسة لإيقاف عجلة الانهيار لتمظهرات عقلية – نظرية وتشكلات سياسية – اجتماعية وبناءات نفسية معولمة، لسنا سوى جزء منها، أهم صورها الدولة "الوطنية" والنخب المعبّرة عنها. أنظروا حولكم في الإقليم وفي العالم، واربطوا بسهم.
5) قيمة قيس سعيّد ليس الشخص بل الظاهرة، ولو لم يكن هو لكان غيره. قيمته التي تميّزه تمثيله لما أسمّيه – تجاوزًا – "المِعْوَل الربّاني" ... الفأس ذي الذؤابة الحادة التي تسرّع انهيار المنظومة، وتكشف الهشاشة الأصلية، وتُجهزُ عليها. هو فحسب واحد من المعاول التاريخية الحاسمة التي تساهم في وضعنا أمام حقيقتنا. يؤكّدُ ذلك حجم ما يعتقد الناس أنه "التباس" أو "ضبابية" أو "تناقض" في القول والفعل لدى سعيّد أو المحيطين به. وأعتقد أن التركيز على تلك المساحة هروب لا إرادي من حقيقة الذات، خوف مبطّن من تحمل المسؤولية الفردية أمام فداحة الانهيار.
لما لا نتعامل مع أقوال المرشح باعتبارها صدقُ الرجل في التعبير عما لا يعرف. هو فقط يبشّرُ بمستقبل أفضل يتطلع إليه ولا يعرف تفاصيله. هو يعرف ما لا يجب أن يكون، ويدعو إلى مسؤولية الأفراد في تشكيل ما يجب أن يكون.
6 )عوض الإغراق في "تأليه" الرجل أو "شيطنته"، حريّ بنا التركيز على قيمة تلك المعاول في تفكيك المنظومات القائمة وتدبّر ما يمكن أن نساهم به في بناء (تدوير) قيم كونية نقترحها على البشرية فتساعدنا وإياهم على الخلاص.
7) لست من دعاة العدمية، ولكني أيضا أعتقد أن المضيّ في تفكيك البناءات التي كبّلتْ إنساننا طيلة قرون عديدة هي من أوكد المهمات. لذلك فإن دعم المرشح قيس سعيّد باعتباره "أداة" ذكية في بناء بوصلة خلاص، لا باعتبار انتخابه قضية حياة أو موت، لهو من بركات صرخة مدوية ذات 14 – 17 لا تزال تصمّ الأذان إلى اليوم، ولا بد أن تصل إلى مداها؛ ولن تصل مداها حتى تستوي على الجوديّ.
رحم الله العبقري مهدي المنجرة.