فاز حزب النهضة بالموقع الأول في انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بكتلة نيابية قوامها 52 نائبا، وهذا يخول رئيس الحزب، بحكم الدستور وبحكم القانون الداخلي للحزب، أن يترأس الحكومة، كما يحق له التفاوض مع بقية الكتل على رئاسة البرلمان. فأي الموقعين يمكن أن يختار رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي؟ وما الذي قد يدفعه إلى موقع دون آخر؟ وما هي انعكاسات اختياره على العملية السياسية الجارية في تونس وعلى إدارة الحزب من بعده إذا كان في هذا الموقع أو ذاك؟ عملية تقدير المصلحة تخضع لحاجة البلد وحاجة الحزب في آن واحد.
المحددات الدستورية
من وجهة نظر دستورية، فإن رئيس الحزب الفائز هو من يتلقى تكليف تشكيل الحكومة من الرئيس بعد أداء اليمين. ولرئيس الحزب أن يتولى أمر توليف الحكومة بنفسه، أو أن يفوض من حزبه من يقود التوليف ثم رئاسة الحكومة، وهذا الوضع يمكن الغنوشي من رئاسة الحكومة لو أراد. أما في البرلمان فإن اختيار الرئيس يتم غالبا في الجلسة الأولى بعد اتفاق الكتل النيابية. يترأس الجلسة الأولى أكبر النواب سنا (وهو للصدفة الغنوشي نفسه)، ثم يتم انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه. ولأن للغنوشي الكتلة النيابية الأكبر، فإنه في وضع تفاوضي مريح يضعه في طريق مفتوح إلى رئاسة البرلمان.
ليس الفوز بإحدى الرئاستين بالأمر الهين، إذ الأمر ليس منوطا فقط بالصلاحيات المحددة بالدستور، بل بوضع سياسي معقد ناتج عن القانون الانتخابي الذي لا يسمح لحزب واحد بأن يتصدر العملية السياسية وأن يحكم وحده. وحيث أفرزت انتخابات 2019 وضعا برلمانيا متعادلا بين مكونات المنظومة القديمة وبين المحسوبين على الثورة، فإن كل خطوة لإفراز قيادة سياسية للمرحلة ستمر بعمليات تفاوضية قاسية جدا قد تجعل الحقوق المخولة بالدستور غير ذات معنى، في ظل الرغبة أو الحاجة الملحة إلى سرعة الخروج من الوضع الاقتصادي الكارثي الذي يمر به البلد.
مصلحة الوطن
تقدير المصلحة العامة في مثل هذا الوضع مقدم على مصلحة الشخص أو الحزب، ولكن مدخلنا إلى ذلك ليس ما يردده نواب حركة الشعب القومية هذه الأيام وهم على عتبات التفاوض مع النهضة، ويعاضدهم آخرون كثر حتى من خارج الأحزاب البرلمانية، من أن المصلحة الوطنية تقتضي أولا تنازل حزب النهضة عن حقوقه التي خولتها له الانتخابات، وربما اختفاء راشد الغنوشي من المشهد السياسي باسم المصلحة الوطنية، وهو موقف ابتزاز يفتقد المنطق القانوني والدستوري.
لكن وجهة نظرنا هي أن للغنوشي تقديره الخاص للمصلحة، وهو التقدير الذي دفعه بعد انتخابات 2014 للتحالف مع الباجي رغم معارضة كبيرة من داخل حزبه ومن خارجه، وهو التحالف الذي أوصل تونس إلى انتخابات بلدية (أنجزت بعد موعدها)، وانتخابات 2019 التي تفكك فيها حزب النداء وأعادت حزب النهضة إلى سدة الحكم (حزبا أول). ونعتقد أنه لولا تحالف حزب النهضة مع النداء لما كنا وصلنا إلى أي محطة انتخابية بعد 2014. ونخال السؤال الآن على مكتب الغنوشي كيف سيقدر المصلحة الوطنية، وهل تتناقض رئاسته للحكومة (أو البرلمان) مع المصلحة الوطنية؟ وأين موضع التناقض إن كان هناك فعلا تناقض؟
تخويف الغنوشي بفرنسا
القائلون بالتناقض يستندون إلى ما يروج عن الرفض الخارجي لحكم الإسلاميين في بلدانهم. وهم يذكرون الغنوشي الآن بالانقلاب على مرسي، وهو نفس التخويف الذي سلط عليه في 2013 ليخرج من الحكومة؛ نفس التخويف جعله وحزبه مترددين في الترشيح لرئاسة الجمهورية.
هؤلاء الخائفون الباثون لخوفهم من داخل حزب النهضة ومن خارجه لا يطرحون السؤال إلى متى يهرب الإسلاميون من الحكم وإلى أين يهربون؟ فإذا كانت شعوبهم تنتخبهم دائما وتشرّع وجودهم في الحكم، فبأي حق يتدخل الغرب في إدارة بلدانهم فيأمر ويضغط كي لا يحكم الإسلاميون؟ ماذا لو هرب الإسلاميون الآن ثم عادوا في انتخابات 2024؟ هل سيعاد التخويف مرة أخرى؟
إن الضغوط الخارجية في ظاهرها موجهة لحزب إسلامي، ولكنها في الباطن موجهة لعملية ديمقراطية ناشئة وتتقدم بنجاح في تحقيق سيادة الشعب على قراره السياسي ومستقبله. (والحقيقة أنه يمكن مقارنتها بكل عمليات الضغط الغربية على كل نظام وطني معاد للاستعمار بداء من نظام بينوشيه في الشيلي حتى توماس سنكارا في بوركينا فاسو). ولذلك فإنه من المصلحة الوطنية أن يحكم الإسلاميون لكي يقطع الشعب ونخبته إلى الأبد مع وضع تلقي الأوامر من الغرب عامة، ومن فرنسا خاصة؛ التي لا تزال تعتبر تونس حديقتها الخلفية وتُحق لنفسها أن تختار من يحكم تونس لمصلحتها.
إذن من المصلحة الوطنية أن يحكم الإسلاميون لأن في ذلك جرأة مطلوبة وطنيا في هذه المرحلة بالذات، لتكف نخب كثيرة عن تخويفهم بفرنسا وسلطتها. هذه فرصة لقطع ألسن كثيرة تردد بخبث أن حكم الإسلاميين سيكون كارثة على بلدانهم لأن الغرب يرفض ذلك، كأن للغرب حقوقا أزلية في تحديد حكام مستعمراتهم القديمة. والحقيقة أن من يروج هذا الخوف يريد أن يحكم بقوة التدخل الخارجي، وهو عاجز عن أن يصل إلى الحكم بالصندوق الانتخابي فيخوف الإسلاميين المنتخبين شعبيا.
ما زلنا نتذكر السيدة سهير بلحسن سنة 2013 (وهي مناضلة تاريخية في حقوق الإنسان) في بلاتوه تلفزي فرنسي؛ تدعو وزير خارجية فرنسا الأسبق السيد فدرين إلى التدخل الفرنسي العاجل في تونس لحماية الديمقراطية من الإسلاميين. هذا الوضع يجب أن ينتهي، ويمكن للغنوشي أن ينهيه، ونعتقد أن وجوده في رئاسة الحكومة أولا (سلطة تنفيذية مباشرة) أو في البرلمان (سلطة تشريعية سيادية) يحمل هذه الجرعة من التحدي المطلوب وطنيا. ونرى في ذلك مصلحة ليست أقل من تكريس السيادة الوطنية للصندوق الانتخابي، فهو الحكم الوحيد بين التونسيين ولا دخل لأي قوة أجنبية في تحديد من يحكم ومن يعارض.
وفي هذا السياق بالذات، نعتقد أن قيس سعيد لم يكن خيارا مقبولا غربيا (فرنسيا)، ولكن الشعب قرر طبقا لسيادته على الصندوق، وقرر تقديم حزب النهضة في البرلمان، وعلى حزب النهضة وعلى الغنوشي بالذات أن لا يخذله باسم الاستجابة إلى الضغوط الخارجية.
مسألة سيادية أولا
الغنوشي رئيسا لحكومة تونس أو رئيسا لبرلمانها هي مسألة سيادية أولا، بقطع النظر عن فلاحه في إخراج البلد من الأزمة، وحدهم التونسيون يملكون الحق المطلق في تقدير فلاح الغنوشي في الحكم فيشكرونه أو يعزلونه بقوة الصندوق. وعلى من يخوف التونسيين بفرنسا أن يحترم ذكاءهم وشجاعتهم، فلقد ملكوا زمام أمرهم.
لم أحدد هنا المكان المناسب للغنوشي في البرلمان أو في الحكومة. أعتقد أن هذا أمر يناقش داخل حزبه وأنا غير معني به، ولكني معني بدفع الحزب إلى الحكم بشجاعة من أجل ما ذكرت أعلاه، أي أن تكون نتيجة صندوق الاقتراع سيادية، وأن يتحمل الفائز مسؤوليته الأخلاقية قبل السياسية في الدفاع عن ذلك.
وإلى ذلك، يهمني كمواطن تونسي وناخب أن ينتهي وضع انتظار إبداع الإسلاميين في الحكم. فقد تحججوا دوما بأنهم مقصيون منه وأنهم ضحايا، وها قد آن أوان الحكم فليحكموا، فإما إبداع ونجاح أو فشل يثبته الصندوق القادم ونخلص من حدوتة الإسلامي المقصي من السلطة. فلتكن رئاسة الغنوشي هي نقطة الحسم. سيقول أنصاره: الدولة ستتجدد على يديه، ويقول أعداؤه: الدولة ستنهار على يديه، وكمواطنين سنحكم على النتائج على النوايا، وذلك طريق الصندوق القادم…