هل يمكن للمرء أن يكون حداثيًا ويسرق المال العام؟ هذا ليس سؤالًا فلسفيًا، بل فاتحة تأمل في ادعاءات الحداثيين العرب في سياق ثورة فاضحة، فقد سلم الكثيرون للحداثي العربي بحداثته المدعاة واستسلموا دون مجادلته في ذلك، لكن هذا التسليم لم يتحول عندي إلى مسلمة رياضية صحيحة، فقد منحت الثورة كثيرًا من الحرية للرد على كل ادعاء أو تمجيد للذات بلا دليل.
الحداثي العربي يسكن في مفاصل دولة رجعية متخلفة ويستولى بطرق حداثية على المال العام دون شعور بالتناقض بين حداثته الفكرية وممارسته اللصوصية، وهو الأمر الذي دفع إلى طرح السؤال أعلاه: كيف تتوافق فكرة الحداثة مع ممارسات اللص؟
حزمة قضايا النضال الحداثي
يصدر الحداثي عن حزمة أفكار مترابطة ومتكاملة نظريًا، فهو ديمقراطي يقبل التعدد ويمارسه ويدعو إلى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ويزيد فوق ذلك ويشدد على المساواة بين النوعين (الذكر والأنثى)، فلا حداثة دون حقوق المرأة كاملة لا تفضل فيها ولا مِنّة من أحد.
الحداثي العربي -والتونسي نموذجًا منه- يطالب بالشفافية في الحوكمة ويمجد الأنظمة الشفافة في أنحاء الأرض ويتخذها أمثلة في نقد نظامه السياسي وحكوماته الفاسدة، ويؤسس نقد الحكومات على نقد الفكر المتخلف الذي يقودها ويعزو التخلف السياسي إلى التفكير الديني المتسرب من ثقافة ميتة إلى مفاصل الدولة الحديثة التي يريدها ولا يجدها، لكنه رغم رجعية أجهزة الحكم وأساليب تفكير الحكام الرجعيين يقبل بل يحرص على التسرب إلى المفاصل لممارسة التحديث من الداخل.
في التحديث من الداخل يتجه الحداثي إلى الأسس الدينية الرجعية للفكر السياسي وللممارسة السياسية ليعريها، لكنه في الأثناء يغفل أو يتغافل أن الرجعية السياسية تموله وهي واعية بأنه يعمل على نقض أسسها، لذلك ينتبه إلى الخطر على مصالحه الفردية فيقوم بمناورة كبيرة ويوجه النقد إلى حيث تريد الرجعية نفسها أي إلى خصومها السياسيين الذين ينافسونها على الأسس الدينية ويقبض مقابل ذلك مكانة في السياسة حتى يتحول إلى جزء منها يذود عنها بقوة الحجة الحداثية، وكلما علا صوته الحداثي ارتفع رصيده البنكي من المال العام.
لكي يبتعد عن إزعاج السلطة الرجعية يتخير الحداثي مواضيع نضاله السياسي والثقافي، فقضية المثلية الجنسية قضية أولى على جدول أعماله، ومن كل قضايا الحرية الغائبة تحتل الحرية الجنسية رأس قائمة المطالب عند الحداثي، ويمكنه عند الحاجة أن يزيد حرية الملبس، فيصير التعري في الطريق العام عنوان الحرية، وحتى في قضية المرأة نفسها التي هي قضية مقدمة فإن نضاله الحداثي يقف عند حريتها في التعري دون إشارة ولو مبهمة إلى حقها في أجر معادل للرجل وظروف عمل لائقة، فالمرأة الريفية أو بروليتاريا الريف الرثة ليست قضيته، لأن إثارتها تزعج طبقة المستغلين لها وهي طبقة عماد السلطة الرجعية.
ونوسع حدقة الكاميرا لنجد إن إحدى أهم ممارسات الرجعيات الحاكمة (وصورتها الأوضح هي سياسات بورقيبة وبن علي) تتجلى في سياساتها الثقافية التي جعلت منها وسيلة لتوليف القلوب حولها بصيغتي الجزرة والعصا في وقت واحد، فكلما اقترب الحداثي أكثر حظي بالجزرة الأكبر، فإذا تجرأ عليها وحفظ المسافة النقدية معها حرم وهدد في قوته، فالسياسات الثقافية العمومية في تونس نموذج ممتاز لدراسة هيمنة الدولة على الفعل الثقافي من أجل استخدام المثقفين لغاياتها ووحده الحداثي التونسي من يحظى بمكرمات هذه السياسة على شكل دعم مالي للإنتاج الثقافي الذي يتبنى القضايا المشار إليها أعلاه.
ممارسات اللص الحداثي
الحداثي العربي يحصر النقاش حيث تريد الحكومات الرجعية، فهو يستهدف عدو السلطة الأول منذ نصف قرن حتى يصل في حماسه إلى نقد إسلام الإسلاميين (حتى ليظن السامع أن الحداثي أكثر منهم حرصًا على ممارسة شعائر الدين) فيجعلهم محل نقد دائم لا فقط في سلوكهم السياسي أو في برامجهم للحكم بل يذهب إلى حد نزع صفة التدين عنهم وهو الذي يبني حداثته على نكران الدين نفسه، وهذه من حيل المجادلة وليست من أسس الفكر.
وهو يجرهم دومًا إلى القضايا ذات العلاقة بأحكام الدين فيدفعهم إلى المزيد من الانغلاق على أصول الدين، فيتهمهم بالإرهاب الفكري وكل ردة فعل دفاعية تتحول إلى إرهاب سياسي ومؤخرًا صار لفظ الدعوشة وصمة تلحق كل إسلامي رفض أو عارض وجهة نظر الحداثي في المسائل ذات العلاقة بالأخلاق التقليدية التي يصدر عنها الإسلامي وإن لم يكن منضويًا في حزب أو جمعية دينية، ويتحول الوصم بالدعوشة لكل من يرفض وجهة نظر الحداثي حتى في مسائل غير ذات علاقة بالدين ومثال ذلك مقاومة الفساد النقابي في تونس.
فالنقابة في تونس تعلن نفسها بؤرة حداثة (وهي مملوكة للحداثيين دون غيرهم) ونقد فسادها في الإعلام الحر أو متابعته بالقضاء تحول في تونس إلى دعوشة، بقطع النظر عن الجهة التي يصدر منها هذا النقد.
يتقن الحداثي لعبة النقاش الهجومي فيصم الغير ويرتب تصعيده على ردة الفعل الدفاعية ولم يفلح الكثيرون في الخروج من الزاوية الضيقة التي يحشرهم فيها بمهارة كبيرة، زاوية الرجعية الفكرية والإرهاب ويمكن القول إنه منذ نصف قرن يسيطر الحداثي على النقاش، فهو مالك الحقيقة الوحيد وغيره مضطر إلى الخضوع له واتّباعه في ما يطرح من قضايا كشفنا أعلاه أنها القضايا التي تخدم السلطة التي حولت هذا الحداثي إلى مهماز تخز به أعداءها الحقيقيين.
الحداثي مهماز السلطة ومثير القضايا الفرعية المهمّشة للنقاش الجدي عن المستقبل هو الوجه الوحيد للحداثي العربي (التونسي بالتخصيص)، وهو يقبض مقابل ذلك مكانة في السلطة تترجم بأعطيات جزيلة باسم الإنتاج الثقافي والإبداعي (لم نشر هنا لسيطرة الحداثي على الجامعة وإغلاق منافذها في وجه من لا يرضاه باسم مقاومة الأسلمة).
يوم يحصي التونسيون المقادير المالية التي صرفت لقائمة من المثقفين الحداثيين بالزعم لا بالفعل تحت باب الإبداع الثقافي سيفاجئهم الرقم المهول من المال العام الذي صرف مقابل تهميش قضاياهم الحقيقية التي كانت تستحق أن يصرف فيها المال العام.
هل يمكن أن يكون الحداثي لصًا للمال العام؟ إنه لص ظريف يدخل من باب الثقافة فيخدم السلطة ويعلن معارضتها (في وقت واحد) وتعرف السلطة عمق معارضته فتزيده من أعطياتها فيزيد في خدمتها وسيستمر اللص النظيف/الظريف ما دام قادرًا على قيادة النقاش من موقعه في السلطة الثقافية والمعرفية، وسيستمر خصومه في وضع الدفاع العاجز عن طرح القضايا الفعلية التي تربك هذا اللص فبعض فلاح اللص وسلطته عائد إلى أن خصومه يقعون في فخاخه، توجد قضايا أخرى لم يفلح خصوم اللص في طرحها، فهناك مقتله.