عن فاجعة عمدون مرة أخرى... في البحث هن الأسباب الحقيقية

Photo

لا يزال التونسيون يتابعون تطورات حادثة انقلاب الحافلة السياحية التي جدت بمنطقة عين السنوسي من معتمدية عمدون التي أسفرت عن مقتل 27 شاب وشابة واصابة 16 اخرين بكثير من الأسى واللوعة لتعود بهم الذاكرة الى الماضي القريب وحادثة وفاة الولدان.

ويبدو أن نسق تكرار مثل هذه الحوادث والماسي قد فرض على التونسيين التعايش مع الصدمات والتساؤلات والبحث عن الأسباب الحقيقة التي تقف وراء حصاد الموت في الوقت الذي تتباهى فيه جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بإنجازات سياسية في باب انتقال ديمقراطي مدعوم من قبل المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي التي تغدق على البلاد قروضا وهبات لم تفرز سوى مزيد من الفقر والبطالة والتبعية الى الخارج ليطلق ممثلوها في تونس صيحات الفزع والتساؤل عن مصير 11 مليار أورو من قبل الاتحاد الأوروبي و4.7 مليار دولار من البنك الدولي.

وفي كل مرة تتجه أصابع الاتهام الى الدولة وجودة المرفق والخدمات العمومية لتتعالى أصوات بضرورة ضخ وتوفير الاعتمادات لقطاعات ومؤسسات أخلت بدورها ومسؤوليتها تجاه المواطن التونسي، لنصطدم في اليوم الموالي بأصوات تنادي بضرورة الإسراع في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والتفريط في المؤسسات العمومية التي تحولت الى عبء على ميزانية الدولة ليقع المواطن تحت قصف التصريحات المتناقضة والمتضاربة الى حين وقوع حادثة جديدة يتابع من خلالها فصول مسرحية جديدة بأبطال مختلفين يكررون نفس السيناريو.

ما يلفت الانتباه في كل مرة هذه الازدواجية المقيتة لدى السياسيين التونسيين الذين يخرجون في وسائل الاعلام عند التعليق على الماسي المتكررة للتذمر من الضغوط التي تواجهها ميزانية الدولة وشح الموارد المالية، ليخرجوا في اليوم الموالي للتباهي بنجاحهم في الضغط على ميزانية الدولة كاشفين بذلك عن عبقرية تونسية في مجال المغالطة والتضليل.

فبعد انتخابات سنة 2014 انخرطت جميع الحكومات في اتباع سياسة تقشف واضحة استطاعت بفضلها الضغط على عجز الميزانية من 6.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الى 4.9 بالمائة في سنة 2018 الى 3.9 بالمائة في سنة 2019 الى 3 بالمائة مقدرة في سنة 2020.

وما يخفيه هؤلاء السياسيون أن هذا الضغط على عجز ميزانية الدولة الذي يستند الى سياسة التقشف يمر عبر التقليص في اعتمادات الوزارات ذات البعد الاجتماعي وهي وزارات النقل والصحة والتعليم لتقتصر ميزانياتها على تأمين تغطية كتلة الأجور على حساب الصيانة والتجديد والتوسع وبعث مشاريع جديدة.

هذه السياسة التقشفية فرطت في هذه القطاعات على خلفية تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والتخفيف من مديونيتها لفائدة قطاع خاص وطني غير مؤهل ليتلقفها الاستثمار الأجنبي وصناديق الاستثمار العالمية بفضل قوانين جديدة مررتها حكومة الشاهد وصادق عليها برلمان منتخب دافع على مصالح لوبيات داخلية وخارجية على حساب حياة المواطن التونسي والمؤسسة التونسية والاستثمار الوطني والسيادة الوطنية.

لقد أدت سياسة التقشف الى اخلال الدولة لالتزاماتها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن التونسي التي تم التنصيص عليها في دستور سنة 2014 .

ففي قطاع الصحة لم تشهد منشئات الصحة العمومية أي تطور، ويتجلى ذلك من خلال النقص في أطباء الاختصاص وعدم انجاز المشاريع المبرمجة وتعطل بعضها الأخر في كامل الجمهورية من ذلك افتقار المستشفيات لأقسام التوليد والكسور فضلا عن افتقارها للتجهيزات والآلات الطبية مثل السكانير. كما تشكو هذه المنشآت من نقص في الأدوية بلغ درجة العجز عن توفيرها.

تدهور مرافق الصحة العمومية أدى الى تفاقم مؤشرات كنا نعتقد أن تونس بعد الاستقلال ستقضي عليها مثل نسبة وفيات الرضع ونسبة وفيات النساء عند الولادة التي بقيت مرتفعة. وقد وقف التونسيون على مستوى تدهور المستشفيات العمومية الجهوية في الحادثة الأخيرة والتي استوجبت نقل الضحايا الى العاصمة.

وفي قطاع التعليم تسبب هذا التوجه التقشفي في تدهور الوضعية المالية للإطار التربوي بمستوياته الثلاث الاعدادي والثانوي والعالي وغياب التجهيزات وغياب الصيانة بالمؤسسات العمومية وغياب خدمات الصرف الصحي مما انعكس سلبا على صحة التلاميذ الذين أصيبوا بمرض التهاب الكبد الفيروسي صنف أ والجرب وأمراض جلدية أخرى.

ومن افرازات سياسة التقشف أيضا الانقطاع المدرسي الذي تحول في تونس الى ظاهرة في تنامي منذ ثمانينات القرن الماضي الى اليوم حيث ارتفع من 26 ألف منقطع في السنة الدراسية 1984 – 1985 الى 57 ألف في السنة الدراسية 1994 – 1995 والى حوالي 127 ألف في السنة الدراسية 2004 – 2005 لتستقر في مستوى 100 ألف منقطع في سنوات بعد الثورة ويبلغ العدد 107 الاف في السنة الدراسية 2012 – 2013 وهو ما يمثل 12 بالمائة من جملة التلاميذ المرسمين.

لقد تحولت ميزانية الدولة في تونس باعتماد الحكومات لسياسة التقشف، التي ستتواصل في السنة المقبلة، الى أداة لتفقير الشعب وتدمير المرفق والخدمات العمومية، وحادثة عين السنوسي أكبر شاهد على ذلك.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات