يعيش حزب النهضة منذ المؤتمر العاشر (2016) على إيقاع ما اصطلح عليه داخل الحزب بمعركة الانتقال القيادي وهو التعبير المرادف لخلافة راشد الغنوشي على رأس الحركة. بعد أن عمر طويلا في قيادتها وقد بدأت أدخنة المعركة تخرج إلى العلن خاصة في فترة اختيار رئيس الحكومة الحبيب الجملي ثم فشله لاحقا وسقوط حكومته المقترحة أمام البرلمان وقد احتدمت المعركة ليلة الخامس عشر من يناير 2020 باستقالة بعض رموز الشباب (هشام لعريض وزياد أبو مخلاة) وهما من الشباب الذين أعادوا بناء الجناح الطلابي للحزب بعد الثورة وعودة النشاط السياسي الحر
ينفخ الإعلام المعادي للحزب على نار الخلاف ويتحدث عن انكسار حزب النهضة وتلاشيه ويلح على دكتاتورية الغنوشي محاولا نصرة معارضيه عليه في عملية تعميق جرح يعتقد كثيرون أنهم قادرون على التسرب إليه وتعفينه فهل يقف الحزب فعلا أمام احتمال انكسار؟أم أن الغنوشي سينجو كما نجا دوما بحزبه متماسكا ويواصل معاركه في داخل الحزب وخارجه؟
لحظات فارقة في المعركة الطويلة
كان الخلاف ظاهرا في المؤتمر العاشر للحزب ولمعت أسماء معارضي الغنوشي وخاصة اسم عبد الحميد الجلاصي رجل الماكينة التنظيمية بامتياز. لكنه لم يكن المعارض الوحيد فقد برز اسم الطبيب عبد اللطيف المكي أيضا وكلاهما يريد لنفسه ويؤلف أنصاره كما يعمل على لعريض على موقعه كرجل أول ويحرك خيوطه بصمت هندسي. لكن الغنوشي أفلح في البقاء مستفيدا من مكانته الاعتبارية (الروحية) داخل الحزب.
القوانين الداخلية للحزب تسمح لرئيسه بتعيين ثلث مجلس الشورى دون انتخاب وهو ما ضمن له موقعا داخل المجلس الذي له حسب القانون الداخلي سلطة أعلى من المكتب التنفيذي لكن الغنوشي قاد الحزب دوما بمجموعة صغيرة يختارها على هواه وفرض على الشورى ما لم يكن محل إجماع.
وقد عرفت هذه المعركة لحظة حادة في صائفة (صيف)2019 عندما رشحت الهياكل الجهوية والمحلية قياديين محليين للتقدم للبرلمان كنواب فقام الغنوشي وفريقه المقرب بالمكتب التنفيذي بتجاوز المقررات الانتخابية وفرض أشخاصا آخرين في موقع كثيرة ألف منهم لاحقا كتلة نيابية مطيعة أو على الأقل لا (تلوي العصا في يده) بالتعبير التونسي وهو ينقل ثقله السياسي إلى البرلمان ويجعل الكتلة النيابية هي مركز القرار السياسي داخل الحزب مهمشا بذلك مجلس شورى الحزب.
حمل معارضو الغنوشي فشل حكومة الجملي للغنوشي وفريقه. وتكلموا عن سوء الاختيار وعن فشل ذريع في إدارة التفاوض مع الشركاء السياسيين الذين اغتنم الكثير منهم فرصة الخلاف الداخلي حول شخصية الجملي مؤكدين على وجود شق ثوري داخل النهضة (ليس شق الغنوشي طبعا) يمكن التعامل معه. وهي محاولة أخرى للاستفادة من الخلاف الداخلي وإضعاف الحزب وبث الفرقة داخله.
حجج منافسي الغنوشي
الحزب يستعد للمؤتمر الحادي عشر في ربيع 2020. والإشاعات تتوالى عن محاولة الغنوشي تأجيله بالتمديد له ولفريقه بدعوى أن الظرفية لا تسمح بانتقال قيادي في هذا الظرف السياسي الحساس. لكن الردود على ذلك تلح بأنه ليس هناك ظرف سياسي مناسب فكل ظرف حساس بالقوة وبالتالي على الحزب أن يجدد القيادات التي هرمت على رأس الحزب ولم تعد قادرة لا صحيا ولا فكريا على تقديم الإضافة فضلا على أن بقاءها على رأس الحزب قد جعلها تقدم الولاء على الكفاءة وتحيط نفسها بانتهازيين راغبين في التمتع بمواقع قيادية لأنها تفتح لهم مواقع قيادية في الدولة.
ويجد هؤلاء حججا وأدلة كثيرة مثال ذلك أن الغنوشي في إطار الانفتاح والتجديد قدم أشخاصا لمواقع قيادية أثبتت فشلها وانتهازيتها مثل السيد حاتم بولبيار الذي أدخل الحزب فجأة وصار عضو شورى معينًا فلما لم يقبل ترشحه للانتخابات الرئاسية رشح نفسه بشكل فردي وأظهر عداء للحزب وتكلم فيه بما يثبت انتهازيته ومثله السيد زياد لعذاري الذي قدمه الغنوشي للأمانة العامة ومكنه من الوزارات بشكل متتابع فلما لم يتم ترشيحه لرئاسة الحكومة أعلن خلافه ورفض التصويت لحكومة الجملي. وقد انتشر على نطاق واسع الحديث عن جرحى التوزير في حكومة الجملي.
ويوجد أشخاص أقل أهمية ظهروا خاصة في الانتخابات البلدية وتبين أنهم تعاملوا مع الحزب كسلم لمواقع خاصة بهم وانقلبوا على الحزب الذي مكنهم. منهم (رئيس بلدية باردو ورئيس بلدية صفاقس). ويستعمل معارضو الغنوشي ذلك كأدلة على فقدان الرجل للحكمة والتبصر والمعرفة بالأشخاص لفرط عزلته داخل التنفيذي.
حجج أنصار الغنوشي.
يلح أنصار الغنوشي دوما على مكانته الاعتبارية أو الروحية فهو الرجل المؤسس منذ نصف قرن وهو المفكر الوحيد داخل الحزب وهو الرجل الذي ضمن شبكة علاقات دولية للحزب خارج تونس وهو المفاوض الصلب مع مكونات المشهد السياسي التونسي الذي يرتجف خصومه أمامه وينحنون.
كما يلحون على أن ليس للمتقدمين لخلافته برنامج غير خلافته في الموقع فهم لا يقدمون طرحا سياسيا مختلفا عنه وليس لديهم خريطة قيادية تذهب بالحزب في اتجاه سياسي مختلف كان يجعلوه حزبا ديمقراطيا اجتماعيا (يمين وسط أو يسار وسط) أو حزب ليبرالي واضح (يمين صريح).
كما أنهم يتهربون من الهوية الدينية للحزب ولا يقدمون إضافات مختلفة عن قول الغنوشي بالإسلام الديمقراطي (وهو وعاء فارغ إلى حد الآن لم يملأه الغنوشي بشيء غير العنوان الكبير) ولكن معارضيه يبدون أقل قدرة على تعميره بشيء يعاد إليه كهوية جديدة للحزب.
ليس في المتقدمين للخلافة منظر بحجم الغنوشي فهم تنفيذيون في الغالب لديهم قدرة على العمل الميداني ضمن خريطة مرسومة ولكن ليس فيهم كاريزما المفكر. لذلك يدعوهم فريق الغنوشي إلى الصمت والطاعة إلى حين يقرر الغنوشي التنحي بنفسه.
المؤتمر لحظة حسم.
المؤتمر قادم مهما تأجل وقد يكون مؤتمر الحسم في الغنوشي ودائرته المقربة في المكتب التنفيذي ومجلس الشورى وقد يكون مؤتمر انكسار الحزب ومعارضو الغنوشي يضغطون الآن لعدم تأجيل المؤتمر والدفع إلى معركة كسر عظم ملوحين باحتمال الخروج وتأسيس مختلف بعيدا عن الغنوشي إذا رفض الانصياع للأغلبية
هل يشكل معارضو الغنوشي أغلبية داخل الحزب وخاصة خارج العاصمة حيث لا تصل أبخرة الخلاف القيادي وحيث للغنوشي نفس المكانة الاعتبارية التي ملكها عبر الزمن (الأب الروحي والمفكر والفيلسوف). الصورة غير واضحة لجهة توزيع القوى بين الغنوشي ومعارضيه. ونعتقد أن الجنوب حيث للنهضة ثقل قياسي يقف مع الغنوشي لأسباب بعضها جهوي صرف بينما تميل النخب الوسطى المتعلمة في الشمال والساحل إلى التجديد.
من خارج الحزب نرى أن الحزب قد هرم لا بهرم الغنوشي وأسلوبه الأبوي في القيادة بل بهرم أطروحات الحكم ونفاد صلاحيتها فالحزب لم يجدد على غرار كل الأحزاب التونسية المرابطة على فكر ما قبل الثورة (حين تربت كلها على المعارضة والاحتجاج) في هذا يستوي الغنوشي ومعارضوه.
يمكن القول أن الثورة القيادية لم تحصل لا في مستوى الأشخاص ولا في مستوى الأفكار (في كل الأحزاب لا في النهضة فقط) وإذا كان التثوير (النمط غير التقليدي) القيادي مطلوبا من الجميع فإنه مطلوب أكثر في النهضة. لأنه الحزب الأثقل وزنا في الساحة السياسية والذي يتحول بسرعة إلى عنصر استقرار لا يمكن تجاهله أو إقصاؤه خاصة بعد أن تبينت هشاشة كل التكوينات الحزبية المكونة للمشهد التونسي.
إن معركة خلافة الغنوشي ليست معركة ضد شخص أو مجموعة إنها معركة تجديد مشهد سياسي هرم (النهضة جزء منه). سقطت أغلب رموزه وعجزت عن التجدد وماتت سياسيا على غرار نجيب الشابي ومصطفي بن جعفر والمرزوقي وآخرون أقل أهمية. ولذلك فإن حصر الخلاف في الغنوشي وأسلوبه هو اختصار مبتذل يقع فيه معارضو الغنوشي إذ يتوهمون بأنهم بإزاحته سيتجددون ولا نرى لهم في الواقع أية أفكار تجديدية فهم حتى الآن نسخ أقل لمعانا منه. وليس أدل على ذلك من إلحاحهم على حجة وهنه الصحي دون تقديم بدائل فكرية وتنظيمية وبرامجية مغرية لمكونات الحزب البعيدة نسبيا عن المعارك الدائرة في المقر الرسمي.
إن تحدي التجديد ليس في استبدال الأشخاص ولكن في استبدال الأفكار وفي غيابها كما نعاين منذ مدة نتوقع أن يجد الجميع صيغة التفاف ومصالحة تبقي الحزب متماسكا خوفا على ضياع الحد الأدنى من المنافع التي ضمنها للجميع. لذلك لا نرى نهضة جديدة قادمة سواء بقي الغنوشي أو أزيح من القيادة. أن مرض العجز الذي أصاب الأحزاب التونسية موجود في النهضة والمعركة ضد الغنوشي كسبب للمرض هي مدخل لعلاج غير فعال.