قراءة نقدية في المشهد السياسي الحالي:
نعيش هذه الأيام على وقع أحداث وسيرورات سياسية شديدة الأهمية، تتميز بعنصر انخفاض درجة التنبؤ أو المفاجأة بالنسبة للمتابع العادي، ولكنها قد تكون أحداثا وسيرورات جارية بفعل تدبير محكم في الدوائر السياسية التي لا يطلع عليها الجمهور العام. وهذا التدبير أو نتائجه هي حصيلة تقاطعات أو موازين قوى وخيارات داخلية وخارجية، مهما بدت لنا نابعة من مؤسسات الدولة الرسمية ومن تطبيقات دستورية حرفية. هذه الأحداث والسيرورات أفرزت للوعي الغُفل جملة من المفارقات سنستعرضها تباعا. ونقول "الوعي الغفل" ، لأن العارف بما يجري فعلا والمطلع على حقائق الأمور لا يستغربها بالرغم مما تتوشح به من غرابة ظاهرة.
* مفارقة أولى: خلافا للتقليد السياسي المعمول به وللتجارب السياسية السابقة بعد الثورة، نجد الآن كلا من رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة مفتقديْن لأي حزام سياسي داعم في البرلمان، فليس لأي منهما أي نائب برلماني يمثله رسميا، وذلك كما هو معلوم، لأن أنصار الرئيس أو من يعرفون ب"شباب قيس سعيد" غير موجودين في البرلمان،
ولأن حزب التكتل الذي شغل رئيس الحكومة المكلف خطة أمينه العام إلى حدود ما قبل اليومين الفارطين، لم يتحصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة على أي مقعد بالبرلمان. وهذا وضع عجيب في الحقيقة: أمين عام حزب له صفر مقاعد في البرلمان يصبح الحاكم الأول في البلاد. وبطبيعة الحال، لم يحصل هذا الأمر من فراغ، بل جاء نتيجة (غير حتمية، لأنه كان أمام قيس سعيد خيارات أخرى معقولة) للمسار الأول لتشكيل الحكومة (حكومة الجملي) والذي باء بالفشل، نتيجة السلوك الذي اتبعته الأحزاب التي دعيت للانضمام لهذه الحكومة (تحيا تونس، التيار، حركة الشعب).
* مفارقة ثانية: حزب قلب تونس المؤسس بطريقة فاسدة أصبح قطب الرحى في العملية السياسية برمتها. وقد حدث هذا مرتين، أي في مساريْ تشكيل الحكومة: حكومة الجملي وحكومة الفخفاخ. في الحالة الأولى امتنع القروي رئيس قلب تونس عن منح الثقة لحكومة الجملي، بحكم عدم حصوله على ضمانات كتابية، طلبها من الغنوشي،
لإيقاف التتبعات القضائية ضده وحفظ القضايا المرفوعة بحقه، فسقطت حكومة الجملي، وفي المرة الثانية يحصل تقريبا عكس هذا المنطق، وهو تشبث الغنوشي بعدم استثناء قلب تونس من المشاورات حول تشكيل حكومة الفخفاخ، ولكأن مسألة الضمانات حاصلة من خارج إرادة الغنوشي نفسه، ومن خارج إرادة الجميع (هل هي بموجب الفدية التي دفعها القروي عن نفسه للأمريكان بتوسط العميل الإسرائيلي آري بن ميناشي؟!).
سلوك رئيس حركة النهضة هذا أثار حيرة الكثيرين كما أثار الكثير من ردود الأفعال السلبية الغاضبة أو المُدينة. ولكن إذا ما عرف السبب بطل العجب كما يقال. وهذا السبب يتمثل في وجود مخاوف لدى قيادة النهضة، مخاوف تتعلق بالإقصاء والاستئصال، والحرص على عدم منح حزيب الامارات (الحزب الدستوري الحر) لعبير موسي، فرصة الانفراد بالقروي وحزبه وتكوين جبهة أو كتلة موحدة في البرلمان تسبب الكثير من المتاعب لرئيسه وللنهضة ككل، مع إمكانية تواطؤ أطراف أخرى مع هذين الحزبين الفاسدين، لعزل النهضة وخنقها بطرق مختلفة. ينتج عن هذا الوضع ;^>
* مفارقة ثالثة، وهي: النهضة الحزب ذو المرجعية الإسلامية والمحسوب على أحزاب الثورة والذي وعد في حملته الانتخابية التشريعية بمقاومة الفساد وبعدم إتاحة الفرصة لقلب تونس ليكون في الحكومة، هذا الحزب يشترط اليوم للانخراط في تشكيل حكومة " الفخفاخ- الرئيس" إشراك قلب تونس في المشاورات حول تشكيل هذه الحكومة: نحن هنا إزاء جدلية الرغبة في مقاومة الفساد، والخوف من الاستئصال. وبهذه المناسبة، يمكن هنا أن نطرح سؤال الفرق بين تحيا وقلب تونس؟
هل أن حزب تحيا تونس الذي أسسه رئيس الحكومة الشاهد لم يتأسس هو الآخر بطريقة فاسدة؟ ألم يظهر من داخل أجهزة الدولة والإدارة؟ ألم يستغل هذه الأجهزة وإمكانيات الدولة كافة ليتأسس ويتمدد ويتفرع؟ ألم يستخدم الشاهد شعار الحرب على الفساد استخداما انتقائيا وسلاحا سياسيا وعقابيا ضد خصومه؟
ثم عندما نعاين اليوم هذا الغزو الكاسح للدولة ومفاصلها من خلال مئات التعيينات التي يجريها الشاهد (قاربت السبعمائة تعيين) في الوقت بدل الضائع، في ما يساوي بالضبط تركيز دولة عميقة ثانية وحكومة ظل، قد تكون ضرّة للحكومة التي سيشكّلها الفخفاخ، الذي مهما دان اليوم بقدر من الفضل في اختياره على رأس الحكومة، لترشيح من الشاهد(ربما بإيعاز من أطراف أخرى، قد يكون الرئيس نفسه من بينها، فضلا عن الترشيح غير المباشر من التيار الديمقراطي) فإن له وجهة نظر وقناعات لا تتطابق ضرورة مع كل أو جل سياسات الشاهد المملاة عليه من خارج (فرنسا أساسا، رغم عمله السابق مع الأمريكان)، ألا يدل كل هذا على فساد تحيا تونس منشأً ومسارا ومآلاتٍ؟!
لكن ما هي الورقة التي يملكها الغنوشي ليشترط أو ليؤكد على ضرورة تشريك قلب تونس؟ هي بطبيعة الحال ورقة إمكانية حجب الثقة عن حكومة الفخفاخ. فبامتناع كل من النهضة (وربما أيضا ائتلاف الكرامة تضامنا مع الأخت الكبرى) وقلب تونس (وربما أيضا الدستوري الحر تضامنا مع قلب تونس، ردا لسلفة تضامن القلب معه، فضلا عن الحسم المسبق في الرئيس الثوري وحكومته) ستسقط حكومة الفخفاخ بكل تأكيد. لكن هل سنصل إلى هذا السيناريو حقا؟ الحل الموضوعي لن يكون بمحاولات وساطة شبه عاطفية، ولكن بتوفير ضمانات ملموسة للنهضة حتى لا تُقلب الأوضاع ضدها بما يلحق بها الضرر المحقق.
* مفارقة رابعة: الدستور يمنح رئيس الدولة الحق في تكليف رئيس حكومة بعد إجراء مشاورات مع الأحزاب، والرئيس يختار رئيس الحكومة، ويُحمّل مجلس النواب مسؤولية قبول حكومة الفخفاخ الذي اختاره لرئاستها، كما يؤكد على أن الحكومة ورئيسها مسؤولان أمام مجلس نواب الشعب، وليس أمام رئيس الدولة، ولكن رئيس الحكومة يصرّح اليوم الجمعة 24 جانفي 2020 بأن مرجعيته في تشكيل الحكومة ستكون نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية الأخيرة التي منحت قيس سعيد 73℅ من أصوات الناخبين، ولن تكون نتائج الانتخابات التشريعية، وهذا الأمر في الحقيقة محير. لأنه وإن يكن مشروعا بالمعنى السياسي الضمني العام وبالمعنى الثوري، ولكنه قد لا يكون مشروعا دستوريا عندما يصبح أمرا معتمدا ومصرحا به بشكل رسمي. بل، لولا مشروعيته الثورية العابرة (هي عابرة، لأنه يمكن في ظرف آخر حصول مترشح رئاسي غير ثوري على نسبة تصويت متفوقة أيضا) لأمكن عدُّه شكلًا انقلابا على الدستور، كما كنا نقول لما ابتعث الراحل الباجي قائد السبسي قرطاج 1 وقرطاج 2 اللذين تشكلت بموجبهما الحكومة (الصيد، فالشاهد) من خارج قواعد اللعبة البرلمانية، وبالاعتماد أساسا على قواعد اللعبة التي أشرف هو على تطبيقها من قرطاج (وقد تكون من وضع جهات خارجية).
* استنتاجات:
* أولا: هنالك أزمة ثقة عميقة بين الفاعلين السياسيين الأساسيين، ومحور هذه الأزمة هو الموقف من وجود النهضة في السلطة برلمانيا وحكوميا. فالباجي رحمه الله، رغم كل مساوئه السياسية والشخصية قد ضمن داخليا ودوليا في النهضة، ولكننا إلى حد الآن لم نلمس ما يفيد هذا مع قيس سعيد.
ربما لأنه يعتقد أنه أمر بديهي لا يستحق التأكيد عليه، وربما لأن الأمر معه أعقد. حيث تمثل النهضة وخياراتها بخصوص النظام السياسي الذي وضعته في التأسيسي، عقبة أمام "مشروع" قيس سعيد. فهل يقدر سعيد على إيجاد صيغة معقولة يمارس من خلالها محاولة تمرير مشروعه وتطبيقه، دون أن يكون ذلك على حساب النهضة وجودا سياسيا عاديا في المشهد الوطني؟
بطبيعة الحال، الحديث هنا عن محاولة سعيد تمرير وتطبيق مشروعه وليس عن التمرير والتطبيق ذاته. فمعلوم أن هذين الأمرين مضبوطين دستوريا بضوابط صارمة وصعبة التحقيق لتعلقهما بالوجود السياسي للأحزاب وفاعليتها ودورها في السلطة برؤوسها الثلاثة. كما أن إشارتنا لهذه القضية لا تحمل أي حكم لا إيجابي ولا سلبي فيها.
* وهنا نصل إلى الاستنتاج الثاني: وهو أن حجم المسكوت عنه، أو شبه المسكوت عنه كبير، في الصراع المكتوم بين رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة الآن، بالنيابة، من جهة، ورئاسة البرلمان بقيادة رئيس حركة النهضة الغنوشي، بل والبرلمان كافة، الذي يفتقد لأي عنصر قيسوني من جهة أخرى. وهذا أمر خطير ولا ينبئ بخير. فهو يهدد استقرار الحياة السياسية وسلامة البناء الديمقراطي ومسار الإصلاحات الاجتماعية. ولذا، فإن فتح حوار صريح بين مختلف الشركاء السياسيين بات اليوم أمرا مؤكدا وملحا. ولا يكفي فيه التعويل على محاولة تجاوز العقبات البرلمانية لإجراء استفتاء حول طبيعة النظام السياسي، أو الضغط بالشارع من أجل التسريع بخلق أزمة سياسية أو تفقيم الأزمة الحالية وتعفين الأوضاع، من أجل خلق مناخ تقبل وحث على استبدال النظام الحالي بنظام مزدوج رئاسي ومجالسي. أو مجالسي أساسا. لأن المرور والتمرير بقوة passage en force
قد تكون له عواقب خطيرة على السلم الأهلي والاجتماعي.
لا بد إذن من فتح حوار وطني برعاية الرئاسات الثلاث يفضي إلى إمضاء ميثاق وطني يضمن استكمال مسار البناء الديمقراطي بناء سلسا. يكون من بين أبرز مخطاته تشكيل المحكمة الدستورية وتنظيم انتخابات المجالس الجهوية، ولا بأس كذلك، بل من الضروري، طرح مشروع قانون انتخابي جديد، يتجاوز ثغرات وهنات القانون الانتخابي الحالي.
* ثالثا: نحن اليوم أمام ديلام (معضلة جدلية) dilemme يتمثل في ضرورة ضمان أمرين في نفس الوقت: مقاومة الفساد مقاومة حاسمة لا هوادة ولا توظيفات سياسوية فيها، من جهة أولى، ووحدة وطنية خالية من روح الكراهية والإقصاء والاستئصال، من جهة ثانية. وهنا يتحمل رئيس الجمهورية مسؤولية تاريخية في ضمان هذين الأمرين معا، قبل التفكير حتى في تجريب أفكاره وتطبيق وعوده بخصوص النظام السياسي الأمثل الذي يرتئيه. لأنه من دون ضمان هذا الحد الأدنى من مكاسب الثورة (مكسب الحريات العامة)، ومن دون التركيز في هذه المرحلة على وضع أسس حوكمة رشيدة خقيقية، لا يمكن التطلع نحو مكاسب أخرى مهما كانت مشروعة.
نحن إذن مقبلون على تطورات في تشكيل حكومة الفخفاخ، قد لا تقل إثارة عما شهدناه لدى تشكيل حكومة الجملي، ولكن بنكهة أخرى، وبعناصر مفاجأة أخرى، إلا أن يستجيب الحس السياسي الوطني للرئيس استجابة سريعة للتحديات المطروحة وينزع بسرعة فتيل الأزمة التي تلوح في الأفق في مسار تشكيل الحكومة. والأهم من كل هذا هو الميثاق الوطني الذي من المفيد إمضاءه تتويجا لمسار حوار وطني صريح يجنب مسار البناء الديمقراطي إرباكات هو في غنى عنها.