في مشهد الانتقال الديمقراطي شروطاً ومآلات
نعيش حياة سياسية كاملة فيها كلّ عناصر الفرجة من عشوائية وإبداع. مثلها مثل المقابلة الرياضية.
أحيانًا تبلغ العشوائية مدى يحيل المتابع على كل معاني الإحباط، وأحيانًا يبلغ الإمتاع درجة عالية. فتكون بعض التخريجات السياسية أشبه بتوزيعه دقيقة تنتهي بهدف برازيلي مذهل. الإمتاع هو الغالب لا تنغّصه إلاّ الأزمة الاقتصاديّة الماليّة التي تجثم على الصدور وتُشقي الزوالي وتهدّد المسار.
أردنا بعض الترتيب مساهمة في توضيح الصورة. إذ نعيش خلطًا في "المعجم السياسي" عائد إلى ما يتواصل من تداخل بين مرحلتين: التأسيس والانتقال الديمقراطي. وهو في وجه من وجوهه تداخل بين زمنين سياسيين.
خرجنا من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية نتيجة جريمة الاغتيال السياسي الغادر والمقصود به إجهاض التأسيس. وما تلا الاغتيال من تحركات تستثمر فيه بلغت أوجها مع اعتصام الروز، ليكون الحوار الوطني منتهاها وبلوغ الانقلاب غايته.
من الخلط المعجمي الحديث عن "الصف الثوري" في مرحلة الانتقال الديمقراطي. فقد كان للثورة/الثورة المضادّة سياقها وممثلوها. في حين تغيّرت المعادلة مع المرحلة الجديدة، وصارت "المنظومة الديمقرطية"، وهي من مخرجات التأسيس السقف الذي يستظلّ به الجميع. وتحت هذا السقف أعيد رسم الحدود بين القديم والجديد. رغم أنّ هذه الحدود بقيت متحولة حتى لحظتنا هذه. ولا يعني هذا أنّ "صفة الثوريّة" قد ارتفعت ولكنها حلّت في معنى جديد. وصار الفرز على قاعدة "استكمال المسار الديمقراطي" و"تحصين الديمقراطية".
وأمكن تصنيف القوى تصنيفًا عامًا لكنه إجرائي إلى: أنصار الديمقراطيّة وخصومها. وأهمية البحث عن القوى التي تمثّل شرطها، مع أهمية الانتباه إلى وسواس الإيديولوجيا وأثره فينا لحظة التصنيف.
ولعلّ من أهمّ "منجزات" انتقالنا أنّه جرّ القديم إلى "المنظومة الديمقراطيّة" وأجبره على التسليم بشروطها رغم ما وظّفه ويوظّفه من مراكز قواه في الدولة والإدارة والأعمال والإعلام وإنصاته إلى المؤثرات الأجنبية المناهضة للديمقراطية.
وحتّى عندما عاد القديم إلى "الحكم" (هو غادر الحكم مع الثورة ولم يفقد السلطة) فإنّه أُجبر على أنّ يكون تحت "اختبار ديمقراطي" كان عنوانه السياسي التوافق. ولم ينجح في 2014 في هذا اختبار الحكم وتفتّتت واجهته السياسية. ويتواصل هذا الاختبار اليوم لمكوّنه الفاشي (الدستوري الحر)، ونعيش انتفاضه وعربدته تحت سقف المنظومة الديمقراطية ومؤسستها التشريعية (البرلمان) ويجد رضا من قوى همّشها الصندوق.
ولن تغيّر استطلاعات الرأي من مآله المحتوم، فليس أمامه إلاّ الإذعان للمسار وشروطه أو الاندثار. فالوظيفيّة ليست وجهة نظر فضلًا عن محدوديتها في المكان والزمان.
"التوافق" مرحلة مختلف فيها طرفاها النهضة والقديم ومشتقاته. وهي من منظور التنافس السياسي تنازل للقديم ووضع اليد في يده وتنكّر للثورة. وهي من منظور الـ "Transitologie" قانون ومرحلة ضرورية يلتقي فيها في الوسط ممثلان عن القديم والجديد في تنازل منهما متبادل مع إجماع على فكرة الدولة والديمقراطية ومنع الاحتراب. مع بقاء طرفيهما (المتطرفين) يذكران بالأصل وبالمثال (وجودهما ضروري إجرائيا).
نحن أمام جيل جديد من الثورات غير شغوف بـ"مسح الطاولة"، ولا يضيره أنّ يطالب النظام بإصلاح نفسه (قبل 23 أكتوبر حكمتنا فرقة رموز القديم بعد أن استعارت لسان الثورة: الغنوشي، السبسي).
في هذا السياق قدّرنا (منذ 2011) في مقالات معلومة أن "الإسلام السياسي" ممثلا في حركة النهضة يمثّل أهمّ شروط تأسيس الديمقراطيّة، إلى جانب شروط أخرى. بل ربطنا بين مصير النهضة وتأسيس الديمقراطية. فتأسيس الديمقراطية سدرة منتهى لتجربة الإسلام السياسي، بتحقّق التأسيس تحلّ التجربة في هوية سياسية جديدة "وطنيّة" (مهمة منجزة). وأمّا إذا بقي للإسلام السياسي حضوره السياسي وفاعليته فهذا يعني أنّ تأسيس الديمقراطية لم يكتمل بعد.
ومن هذا المنظور نقرأ مسار حركة النهضة: فالنهضة لن تنقسم إلاّ بعد انتهاء المهمّة. وما يظهر من بوادر فعلية على انقسامها هو مؤشر على أنّنا نقترب من تأسيس الديمقراطية وانتهاء مرحلة الانتقال الديمقراطي.
في هذا السياق أيضا، يمكن أن نفهم ما مررنا به بعد الانتخابات الأخيرة من جدل سياسي في تشكيل الحكومات. وتفصح نتائجه الأخيرة عن دور النهضة الأساسي في العملية السياسية والانتقال.
في موضوع تأسيس الديمقراطية، المفروض أن تكون القوى الديمقراطية والحداثية بكلّ تفريعاتها هي شرط الديمقراطية والقوة السياسية الاجتماعية التي يكون لها شرف تأسيس الديمقراطية، باعتبارها نتيجةً لعملية التحديث التي قامت عليها الدولة الوطنية، وبحكم علاقتها المرجعية بالديمقراطية وثقافتها.
ولكن هذا لا يحصل، ويتقدّم الاسلام السياسي لينهض بالمهمة.
ومن شان هذا أنّ يطرح أسئلة جوهرية عن حقيقة التحديث ومجاله وقواه. وأهمّها سؤال: ما هي القوى الحداثية؟ ولِمَ لا يكون الإسلام السياسي هو حداثة البلاد السياسية والفكرية؟
البحث في مشهدنا السياسي، في بلادنا وفي المجال العربي ومحيطه الإسلامي، يقدّم الإجابة. ويوزّع المهام التاريخية والفعل السياسي وغاياته.
فعملية "التحديث" وبناء الدولة كانت مهمة قوى "الحداثة الوطنية" في مرحلة الاستقلال. أمّا بناء الديمقراطيّة فيبدو أنها مهمّة قوى "الحداثة الإسلامية".
إذن نحن أمام مرحلتين: الاستقلال وبناء الدولة، والثورة وتأسيس الديمقراطية.
قلنا فيما سبق إنّ "العدالة والتنمية" تمثّل أعلى مراحل الإسلام السياسي (بالحدود التي كنا ضبطناها). ولتقريب الصورة نرى أنّه:
في تركيا، مثلما كانت للكمالية دور بناء الدولة كان للأردوغانية مهمة تأسيس الديمقراطية. وفي تونس: ومثلما بنت البورقيبية دولة الاستقلال تتقدم النهضوية نحو تأسيس الديمقراطية (هي من أهم شروطها وليس شرطها الوحيد...).
"الحداثة الإسلامية" أو الحداثة العربية"، هي مرحلة، ببلوغها غايتها، ينقرض فيها الإسلام السياسي ليحل في هوية أخرى.
وهي مرحلة مرتبطة سياسيًا بالديمقراطيّة التمثيلية التي تكشف عن معاني عديدة منها أزمة الدولة الحديثة وأزمة التمثيل. وتكشف عن ملامح مرحلة جديدة نسمّيها "الحداثة الأهلية". ودورها الإجابة عن أزمة الديمقراطية التمثيلية. ونرى ملامح هذه المرحلة من وراء غبار الانتخابات الأخيرة الذي لم يهدأ بعد. وغاية هذه المرحلة رأب الصدع السياسي والاجتماعي بإعادة صياغة الدولة وتحريرها من مركزيتها لتغطي كل المجال السياسي والمجال الاجتماعي.
فالانتخابات الأخيرة تكشف عن وجود مجالين سياسيين: مجال "سياسي مدني" (رسمي) بديمقراطية أساسها التمثيل عبّرت عنها الانتخابات التشريعية، ومجال سياسي أهلي (موازي) عبّرت عنه الانتخابات الرئاسية بديمقراطية أساسها الإجماع.
تعبير المجال السياسي الأهلي كان بواسطة الثورة وفي مواجهة النظام السياسي المتحصّن بالدولة، فصار بعد التأسيس والانتقال من داخل الدولة والمنظومة الديمقراطية: كانت جمنة "كومونة الثورة المنسية" بروفته الأولى ثم اتسع مع الانتخابات الرئاسية ليصل إلى أعلى مؤسسات الدولة(الرئاسة). وما يعبّر عنه الرئيس قيس سعيّد ياتي في هذا السياق، رغم غموض الصياغة وعدم تصريفها في جمل سياسية مفيدة، وبقائها في حيّز الحلم الجميل.
هذه وجهة نظر ومنوال دفعنا بها ونواصل الدفع بها مساهمة في عقلنة المشهد، بمعزل عن كلّ التزام حزبي. لسنا صفحة بيضاء، ولسنا محايدين ولكن نجتهد في فهم ما يدور حولنا، فقد يكون فيه بعض فائدة في دفع الفكرة والفعل.
رحم الله الشهداء.