أجلس قرب أمي وأمسك يمناها بيسراي وأرقن بيد واحدة ولقمة الصوف تقف في حلقي واحتاج من يقرعني على التقصير في حقها فيظهر عبد الباسط إذ تعبر صورته أمامي فأجده وأشم ريحه. يحضر عبد الباسط في الملمات العاطفية واستحضره عند رغبتي في ضرب رأسي بالجدار. وحده يضربني فلا يوجعني فأجد حلاوة العقاب وأستزيد. أقول دوما لصورتي في المرآة لقد خلق الله عبد الباسط ليؤدبني به. ويقول لي لقد خلقك الله لتنبهني إلى سفالة العالم فنخرج راضيين عن الصحبة.
الضمير وقبيله أنا أمثل الشر في لعبة الأدوار فيقول لي لتخفيف الوجع أنا أشرّ منك فاستغفر لي فلا استغفر فيذهب إلى الصلاة ويتركني مع تبغي والقهوة المرة. عرفت عبد الباسط في حلقات النقاش في الجامعة أول سنة 1984 كان أقرب مني إلى الإسلاميين ولم يكن منهم وكان يجدني في كل الحلقات فيسألني مع من أنت؟ فأقول دون تبين الطريق أنا مع الجميع ولست مع أحد فيلوي شفتيه لكنه لا يرميني ويقترب فاقترب ثم نهاجر معا إلى غرفة واحدة ونتقسم القوت والجوع والضحك والبكاء ونكمل الطريق وتراودنا أفكار عن مقبرة واحدة بعد حين.
في صائفة 84 دخلت بيت أبيه في دوز المعلم النبي بلقاسم الفقيه وأكلت من يدي أمه وأمه لو طبخت الهواء في قدر لجعلته ألذ الوجبات ولاعبت عبير الصغيرة صارت عبير الآن مترجمة دولية إلى أربع لغات في البيرو وكانت مها الصغيرة تتعلم الكلام وهي الآن أم وربة بيت عبقرية. وصار الأب معلمي عجوز زيتوني ناصري الهوى صالحني مع عروبتي ومع روح الصحراء العربية وللصحراء روح لا يعرفها الجاهلون.
في بيته كتبت الفقرات الأولى من مخلاة السراب فلما قرأها قال أنت روح لا قلم. ومررنا من سم الخياط إلى اللحظة الراهنة. ونتحدث إذا التقينا عن الأولاد وأمي الأولاد ونقول الحمد لله ونخفي عنكم قرارينا لم يتزوج حتى قلت له أنها هي التي تريد ولم أتزوج حتى قال لي هي التي ينبغي لك. ونتعاتب إذا أخطأت في حقينا أما الأولاد ثم نخفف عن بعضنا أوزارنا إذا أخطانا في حقهما.
نبدأ الحديث عنهما باللعنات ثم ينتهي بشراء قراطيس اللحم والغلال كما رأينا أبوينا يفعلان إذا رغبا في الصلح الحميمي. والحقيقة أن راتبينا لم يسمحا أبدا بهامش العطور العبقرية وكان الورد قصة قرأناها ولم نكتبها. في الطريق مع عبد الباسط عرفت جمال الصليعي فقلت سرا وجهرا لقد ملكت العالم. وعرفت من دوز من لو لم أعرف لوجدتني بلا أهل ولقد ظن قوم كثير أني مرزوقي من دوز.وكان في بعض حماسي للمنصف المرزوقي أنه من دوز ولولا أني عرفته في لحظة عقل باردة لقلت هذا أبي ولم أشرك بأبي أبا.
أجلس إلى أمي واجد ريح عبد الباسط وأرقن بيد واحدة. وتحدث المعجزة أمي بين أنفاس متقطعة لاهثة تسألني أين أخوك فأدير لها وجه الحاسوب فتتبينه بصعوبة هاهو فترى شيبه لقد إبيض رأسه كيف أولاده وزوجه فأكذب إنهم بخير أنا لم أعد أجلس إليه كثيرا ولم أر أهله منذ دهر وأنسى إذا التقيته أن أسال. صار الصمت ثالثنا حول طاولة القهوة كأننا قلنا كل الحديث. ويحدث أن نبكي بصمت. الشعور بتقدم الزمن على وجهينا يحزننا فنهرب من الذكريات ومن التوقع ونفترق بلا وداع.
زمن أحلام الجامعة يعذبنا بعد لقد قضينا دهرا طويلا نبني جمهوريتنا الفاضلة فلم نبن غير هزيمة ماحقة. يرمم هو ما يستطيع وأرمم ما أقدر ولا نفلح. كبر أولادنا ويستقلون. أولادنا مختلفون عنا كأننا لم ننجبهم. أنا بلا شادي وهو بلا نديم. أتعزى بنور ويتعزي بإياد. يقول لك هنيئا لك عندك بنت تؤنس وحدتك وأقول له هنيئا لك عندك ولدان ولن تألم إذا جرح رجل كبدك.
نجمع الآن الحزن في زجاجة ونشربه وقد كنا نجمع الأمل في كأس ونسكر. يعبر عبد الباسط وأنا أدس رأسي في صدر أمي وأسمع لهاث صدرها يضيق وأمسك يدها المرهقة وأمسح بها على وجهي كأني أخرج من صلاة. وتحدث المعجزة الثانية يهتف عبد الباسط ولم أخبره بمكاني. في زمن قديم قبل الهواتف الجوالة كان يحدث أن نرفع الهاتف في وقت واحد فيجدني مشغولا بطلب وأجده مشغولا بطلب. لقد منّ الله علي بعبد الباسط ولقد أسند غربتي فلم افتقر وعسى أن أكون قد آنست غربته لقد حملنا إلى الشمال حزنا عميقا علمتناه الصحراء لم نصحر الشمال ولم نخصب الجنوب وعشنا كأننا في وطن.
الآن نقول هذا الوطن غربة ونبحث عن مقبرة واحدة ربما تآنس القبران فنكمل حلمينا بوطن لا يظلم عشاقه. وهذه الجملة الأخيرة وصية،سأموت قبلك فصلّ عليّ واغرس قربي نخلة من نخيل أبيك.