الحياة وجمالها وملذاتها وسحرها وطول الأمل فيها توهمنا بأننا "نعيش أبدا"، وتأتي كورونا وأخواتها بتهديدها ورعبها وقدرتها على إيقاف الحياة في أدق حميمياتها وفي أوسع مجالاتها لتنبهنا إلى أننا سـ"نموت غدا".
المعادلة الصعبة بين هذين الحدّين: العيش أبدا والموت غدا. فالاكتفاء بـ"العيش أبدا" قسوة للقلب وتألّه(الإنسان الكامل)، وفي الانشداد إلى "الموت غدا" استقالة للعقل و ترهّب(الإنسان الخامل) .
ويبدو أنّ المعادلة العقلية هو في أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا ونعمل لآخرتنا كأننا نموت غدا.ولكل الحرية في أن يتصور آخرته. فهي عند الجميع تبدأ من نقطة الموت. وقد تنتهي عند البعض بحدث الموت نفسه باتجاه دهرية خرساء. وقد تنفتح عند البعض الآخر على حياة أخرى، قال فيها الدين قولًا واحدًا واختلف فيها المتدينون حدّ التقاتل حين أسقطوا عليها شروطهم الدنيوية.
والفريقان يقولان بالأخلاق رغم اختلافهما في "طبيعتها"، والأخلاق بناء قوامه فكرة العدل. والعدل أساس الكون. وفي معناه الأدق: النظام والميزان.
وبدون النظام والميزان ينهار الفكر وأنساقه ويضمحلّ الكون الذي هو صورة من فكر الفكر وواجب الوجود. وفي هذا المعنى افترض الجاحظ حالتي "الخير المحض" والشر الصرف"، وانتهى إلى أنّ مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشرّ.
يقول أبو عثمان:
"اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى انقضاء مدتها، امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسار، والضّعَةِ بالرفعة، والكثرة بالقلّة. ولو كان الشر صِرفًا هلك الخلق، أو كان الخير محْضًا؛ سقطت المحنة وتقطّعت أسبابُ الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة"…
"تقطّعت أسباب الفكرة" عبارة معجزة تحيط إحاطة عجيبة بمعنى انهيار الفكر، فكأنّ "الثنائية" أساس الفكر وقوام الكون وعنوان ميزانه.
ولا ضير في أن تُعتبر الثنائية "تناقضا" عند بعض الأنساق(فلسفة التناقض أو الحداثة: وجذورها في الفلسفة والديانات البدائية وفي المسيحية واليهودية، فهذه تجتمع كلها في فكرة التناقض)، أو "اختلافًا " عند أنساق أخرى (فلسفة الاختلاف أو ما بعد الحداثة: تقاطعها في فكرة الاختلاف مع البداوة العربية ومنوالها اللغوي، والإسلام ومنواله القيمي، وقد يبدو الحديث عن هذا التقاطع غريبًا ).
في كتاب De la grammatologie، لجاك درّيدا نفاذ إلى فكرة الاختلاف وعودة مبهرة إلى"ألواح موسى"، وقد انتهى فيه صاحب الكتاب إلى أنه"لا علامة قبل الكتابة"، فيكاد يتوهّم معه القارئ أن جذور "ما بعد الحداثة" ساميّة.
ويقوّي وهمَنا هذا حدُّ الحداثة على أنّها "أمل لا حدّ له بالعقل ويأس مطلق من الدين"، وحدُّ ما بعد الحداثة على أنّها "شكّ العقل في مقدماته وتسليمه بحدوده ونسبيته".
والله أعلم