كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟

Photo

أطلق صحفيون منذ أشهر حملة "صحفيون ضد الرداءة" للتنديد ببعض البرامج التلفزيونية التي توصف بالرديئة ثم انطلقت حملة أخرى شعارها "لا تجعل من الحمقى مشاهير". وتعاظمت بشكل عام الشكوى مما يسمّى برامج "الرداءة" حتى أن حملات أخرى نظمت لهجرة التلفزيون ومقاطعته على غرار"حملة سل الفيشة". ولا يتردد الناس عن التعبير عن اشمئزازهم وامتعاضهم من هيمنة برامج "الرداءة".

لكن السؤال الذي لا يطرحه المنددون، من النخب أو من الناس العاديين، بهذه البرامج التي يقوم عليها نموذج التلفزيون السائد هو أسباب طغيانها في المشهد التلفزيوني: هل هو ذوق الجمهور الهابط مثلًا الذي تستجيب له القنوات التلفزيونية كما يردد ذلك البعض وفي هذه الحالة فإن هذه البرامج ليست سوى انعكاسًا لثقافة التونسيين أم أن الأمر يتعلق باستراتيجية إرادية غايتها خلق جمهور لهذه البرامج للحصول على موارد إشهارية؟ ثمة أيضًا سؤال آخر لا يقل أهمية وأكثر عمقًا: هل يساهم سياق تنظيم (أو تعديل) التلفزيون الخاص في طغيان هذه البرامج؟

تحيل "برامج الرداءة" إلى ما يسمّى "تلفزيون القمامة" الذي يقوم على الترفيه باستعمال كل الطرق والوسائل المتاحة، فغاية "تلفزيون القمامة" استقطاب أكبر قدر ممكن من المشاهدين لتحويلهم بعد ذلك إلى سلعة لصالح المستشهرين الذين يبحثون عن أهداف إلى إشهارهم أو بالأحرى مستهلكين إلى بضائعهم. تجسّدت برامج تلفزيون القمامة في برامج تلفزيون الواقع واستعراض الحياة الشخصية والبرامج الحواريةTalk Show.

ومن هذا المنظور، ليست "الرداءة التلفزيونية" ابتكارًا تونسيًا، فهي في كثير من الأحيان مستوردة من القنوات الأوربية والفرنسية على وجه الخصوص تمت "تونستها" إذا أردنا. وفي المقابل، لا تمثل هذه البرامج في السياقات التي اُبتكرت فيها سوى جزءًا من المشهد التلفزيوني، ولا تمثل إذًا هذه البرامج مشكلًا في ذاتها لأنها ليست استثناءً تونسيًا، ولأن الناس أحرار فيما يشاهدون والمطالبة بإلغائها هو نوع من الحكم الأخلاقوي ذي النتائج الوخيمة عندما يتعلق الأمر بإخضاع التلفزيون والميديا إلى أحكام أخلاقية. لكن يكمن المشكل في هيمنة هذا النوع من البرامج وبشكل عام في تنميط المشهد التلفزيوني.

وإذا أردنا أن نفهم كيف أصبح التلفزيون التونسي (أي النموذج السائد مهما كانت طبيعة القناة) على ما هو عليه أي كيف طغى نموذج التلفزيون التجاري الترفيهي المنمط وغير المتنوع، فعلينا أن نسترجع مساره التاريخي منذ تأسيس مؤسسة التلفزة الوطنية. فقد عرف التلفزيون التونسي عصرين أساسين: العصر الأول يمكن أن نصفه بالسلطوي عندما كان التلفزيون أداة في يد الدولة خاضعًا إلى السلطة السياسية باعتباره مؤسسة من مؤسسات إدارة المجتمع، أما العصر الثاني فهو عصر التلفزيون التجاري الترفيهي أو تلفزيون التسلية الذي أصبح يحكمه منطق السوق كما سنبين ذلك.

عصر التلفزيون السلطوي الدعائي

قبل أن يصبح المشهد التلفزيوني التونسي "رديئًا" يحكمه منطق التسلية والترفيه وينشط فيه نجوم الأنستغرام والدعابة المثيرة المجتمعين في برامج "التوك شو"، ترقص وتضحك وتهرج وتلهو كالأطفال، وتتبادل النكت وتسرد قصصًا عادية جدًا إلى حد التفاهة وتقذف بعضها البعض بالبيض أحيانًا، وقبل أن يصبح أيضًا نافذة على حياة الناس الخاصة والحميمية، كان التلفزيون مدرسة كما أراد له ذلك الحبيب بورقيبة.

ساهم التلفزيون كوسيط على نحو ما في إقامة علاقة سياسية ذات طبيعة سلطوية عتيقة وعمودية أبوية أي زعيم يخطب في جمهور من المستمعين، إذ ينظر بورقيبة إلى تحديث المجتمع التونسي على أنه عملية يقودها بنفسه وبإشرافه باعتباره معلّم التونسيين بفضل توجيهاته المتلفزة يوميًا. هكذا يمكن أن نقول إن بورقيبة كان "كرونيكور" الحياة السياسية والاجتماعية يخاطب التونسيين يوميًا ليعلمهم كيف يفكرون ويتصرفون. وتضمن التلفزيون كما أراده بورقيبة بعض ملامح التلفزيون الغابر والقديم (Paléo Télévision) كما يسميه أمبرتو أيكو، تلفزيون مؤسساتي في خدمة السياسيين ودعايتهم. واستمر هذا التلفزيون لعقود طويلة حتى بدأت تتشكل ملامح تلفزيون جديد يمزج بين البعد السلطوي والبعد الترفيهي.

بوادر تلفزيون الترفيه

ظهرت برامج الترفيه مع نجيب الخطاب الذي يمكن أن نقول إنه يمثل أول نجم تلفزيوني، وتعززت مع الكاميرا الخفية والفوازير. وظهر، في نهاية الثمانينيات، الإشهار التلفزيوني الذي تعاظم دوره كمعيار أساسي في تصميم البرامج وفي اتجاهات البرمجة. وهكذا تراجع البعد المؤسسي للتلفزيون لصالح البعد الترفيهي، وأصبح التلفزيون أكثر انفتاحًا على عوالم التونسيين رغم أن أغاني المزود مثلًا بقيت ممنوعة من البث.

ثم جاءت القناتان الخاصتان "حنبعل" و"نسمة" بأسلوب جديد عبر برامج مثل "ستار أكاديمي المغرب العربي"، لكن التغيير الحاسم تجسد بواسطة التلفزيون العمومي نفسه، وهذه هي المفارقة، حينما كان حاضنة النموذج التلفزيوني الجديد الترفيهي التجاري في النصف الثاني من العقد الماضي انطلاقًا من سنة 2005. إذ مثّلت البرامج التي أنتجتها "كاكتوس برود" لصالح التلفزيون العمومي بوادر ما يمكن أن نسمّيه "سلعنة" التلفزيون أو خضوعه إلى منطق السوق أي بمعنى آخر إخضاع فلسفة برمجة التلفزيون إلى منطق الإشهار عندما أصبحت البرامج تصمم وفق قابليتها على استقطاب المستشهرين.

لكن التحول الذي شهده التلفزيون في تلك الفترة شمل أيضًا مستوى آخر لا يقل أهمية، إذ تعاظم البعد الاجتماعي للتلفزيون بحضور الناس العاديين فيه. ففي برامج "دليلك ملك" و"أحنا هكا" و"أخر قرار" و"عندي ما نقلك"، فقد التلفزيون نهائيًا طابعه المقدس باعتباره مخصصًا للنخب السياسية وأصبح مفتوحًا لظهور الإنسان العادي في الشاشة.

لم يعد التلفزيون مجالًا يحتكره الرئيس والسلطة السياسية فقط بل أصبح أيضًا نافذة على عوالم التونسيين الاجتماعية محافظًا في الوقت ذاته على طابعه السلطوي. بشّرت برامج "كاكتوس برود" بنموذج تلفزيون جديد "اجتماعي" و"حميمي" و"شعبي" يسعى إلى أن يكون منفتحًا على عالم الإنسان العادي الذي بإمكانه أن يحضر فيه للهو والعب أو لسرد أطوار حياته الخاصة.

والحقيقة أن هذا التحول مرتبط بتحولات المجتمع التونسي نفسه، فقد استجاب التلفزيون في منتصف العقد الماضي بشكل جزئي إلى تحولات المجتمع وظهور الأنترنت والمنافسة العربية والعالمية وحاول أن يتأقلم مع بيئته الجديدة. ولكن هذا الأسلوب الجديد الاجتماعي كان أيضًا الطريقة الأمثل والأنجع للحصول على المداخيل الإشهارية. هكذا كان التلفزيون في السنوات الأخيرة من عهد النظام السابق مزيجًا هجينًا يتعايش فيه التلفزيون القديم السلطوي الدعائي الخاضع إلى إرادة السلطة السياسية والتلفزيون الجديد الترفيهي التجاري الخاضع إلى منطق السوق.

التنميط بواسطة الرداءة

ظهرت بعد الثورات قنوات تلفزيونية خاصة جديدة سرعان ما أندثر عدد منها. واتخذ التلفزيون (العمومي والخاص) بعد الثورة بعدًا سياسيًا جديدًا وانفتح على الحياة السياسية بعد أن أصبح فضاء من فضاءات المجال العمومي التونسي الجديد بفضل البرامج الحوارية على وجه الخصوص التي تحولت إلى حلبة يتصارع فيها السياسيون.

ثم تراجع تدريجيًا هذا البعد السياسي بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية 2014 وخفوت الاستقطاب السياسي وتناقصت البرامج الحوارية لصالح أنواع أخرى من البرامج الترفيهية، فاجتاحت المسلسلات التركية كل القنوات بما في ذلك القنوات التلفزيونية العمومية ثم ظهرت برامج "التوك شو" التي تجسد معها في مظاهره المثلى التلفزيون الترفيهي. يمثل هذا الخليط بين المسلسلات التركية وبرامج "التوك شو" هوية التلفزيون السائد (العمومي والخاص على السواء).

في نقد البؤس التلفزيوني

السِؤال الجدير بالطرح الآن: هل يعبر المشهد التلفزيوني على التنوع الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي للمجتمع التونسي؟ وهل يحقق حاجات التونسيين إلى تلفزيون متعدد الأبعاد والوظائف أي الأخبار والنقاش السياسي والبرامج الثقافية والمعرفة (الفنون والمسرح والسينما والأدب) وتمثيل مظاهر حياة التونسيين المتنوعة والمختلفة؟

لا شك أن المشهد التلفزيوني غير متوازن بالمرة يقوم بشكل كامل تقريبًا على طغيان الترفيه والتسلية الذي يمثل في الحقيقة خضوع التلفزيون إلى منطق السوق بشكل يكاد كليًا. بمعنى آخر، لا يخدم المشهد التلفزيوني الجمهور بقدر ما يخدم مصالح القنوات التلفزيونية في الحصول على أكبر قدر ممكن من الموارد الإشهارية. وتستخدم هنا آلية قيس الجمهور كآلية مختالة للشرعنة أي لإضفاء شرعية لنموذج التلفوني التجاري المحض عبر إظهار هذا النوع من التلفزيوني باعتباره نوعًا شعبيًا.

يمكن أن نتحدث دون حرج عن نوع من الاغتراب التلفزيوني لأن التلفزيون التونسي السائد (العمومي والخاص على السواء) اقتصر على إشباع حاجات بعينها أي الترفيه والتسلية دون الحاجات الأخرى المتنوعة الضرورية للإنسان التونسي باعتباره كائنًا متعدد الأبعاد. إن الأمر لا يتعلق بتجريم الحاجة إلى الترفيه لأن التلفزيون ليس مدرسة، بقدر ما يتعلق بإدانة اختصار التلفزيون في هذه الحاجات بعينها دون غيرها.

إن الاغتراب التلفزيوني الذي يعيشه التونسيون يعني هنا أن الوفرة التلفزيونية هي في الحقيقة حرمان التونسيين من إمكانات أخرى يمكن أن يوفرها التلفزيون، أي إن ما نراه في الشاشة لا يشبهنا، ولا يعبر عنا وهو ليس مرآة لما نحن عليه.

لقد كان التلفزيون منذ نشأته حتى الثورة تلفزيونًا منفصلًا عن المجتمع تستخدمه السلطة لإدارة المجتمع عبر نفي تنوعه لصالح ضمان ظهور السلطة ومن يديرها، وهو مازال للآن منفصلًا أيضًا عن المجتمع لأنه لا يعبر عنه بشكل أصيل. إن التلفزيون السائد هو في الحقيقة صناعة ترفيهية لخدمة صناعة الإشهار. لقد أصبح التلفزيون، العمومي والخاص، مشهدًا متنكرًا للتنوع الاجتماعي والثقافي: حلبة للسياسيين فحوّل المواطنين إلى مشاهدين والسياسة إلى مشهد تحتكره النجوم التلفزيونية التي تلهو فيه أمام أعين التونسيين. هكذا أصبح التلفزيون مشهدًا منغلقًا على نفسه، مشهدًا ذا بعد واحد أو ذا أبعاد محدودة وشاشة تحجب تنوع المجتمع بدل تمثيله.

يقول أمبرتو أيكو في تعريفه للتلفزيون الجديد إنه لا يظهر عالم الناس ولا يتحدث عنهم بقدر ما هو منشغل بالحديث عن نفسه، وتجسد هذا المنطق الذي يبدو غريبًا في زواج أحد النجوم التلفزيونية الذي تحول إلى حدث تناولته الصحافة بل إن النجم نفسه دعا في برنامجه نجمة أخرى للحديث عن سهرة زواجه.

أزمة منظومة التعديل

يبدو واضحًا أن منظومة حوكمة الميديا وتعديلها لم تنجح في إرساء مشهد تلفزيوني يحقق مقاصد فلسفة تعديل الميديا السمعية البصرية وتنظيمها التي تضمنها المرسوم 116 وهو المرجع المعياري الذي وضع فلسفة النظام السمعي البصري التي تقتضي أن يضمن المشهد السمعي البصري حق التونسيين في "الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام،" و"أن يوفر برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة، وأن يشجع على برمجة تربوية ذات جودة عالية… تعبر عن الثقافة الوطنية" كما ورد ذلك في الفصل 15 من المرسوم المذكور.

لقد حان الوقت لتطوير فكر نقدي للميديا نزيه وشجاع لا يكتفي فقط بإدانة برامج الرداءة من منظور أخلاقوي وكأن التلفزيون مدرسة وظيفته تعليم المواطنين ويكون فيه الظهور حكرًا على فئة بعينها سياسية أو ثقافية. يجب أن ينصب هذا الفكر النقدي للتلفزيوني كذلك على نقد منظومة التعديل من داخل فلسفة التعديل ذاتها حتى لا يتحول التعديل إلى غاية في ذاته على حساب غاياته الحقيقية وهي أن يسهر على إقامة الشروط الضرورية من أجل تلفزيون منفتح على المجتمع وعلى التونسيين وعلى العالم، ونافذة على أوجه الحياة المتعددة بما يعني تلفزيون يمثل أيضًا قوة تتعالى بالإنسان.

إن هيمنة برامج الرداءة بالمعنى الذي أشرنا إليها أي تلك البرامج القائمة على التسلية والترفيه تحقيقًا لاسترخاء المشاهد وتجهيزه لتقبل الإشهار التجاري إنما دليل على أزمة منظومة التعديل الراهنة وضمورها وعدم فعاليتها واختزالها في بعض الأبعاد على أهميتها (إسناد التراخيص ومعاينة التزام القنوات التلفزيونية ببعض بنود كراسات الشروط)، في حين أن التعديل يجب يتجاوز ذلك نحو تنظيم المشهد التلفزيوني برمته لتحقيق غايات التلفزيون السياسية والاجتماعية والثقافية.

إن التأمل في تاريخ التلفزيون يفضي إلى أن القوى الخفية التي تتملك المشهد التلفزيوني وتحكمه غير عابئة بمنظومة التعديل التي تمخض عنها الانتقال الديمقراطي كبديل عن الحوكمة السلطوية للتلفزيون. هي بلا أدنى شك قوى السوق بمعنى أن النموذج السائد للتلفزيون التونسي (العمومي والخاص على السواء) يبدو أن وظيفته الأساسية هي خدمة نفسه كصناعة عبر خدمة صناعة الإشهار.

وخلاصة القول إننا مررنا من تلفزيون تسيطر عليه السلطة السياسية إلى تلفزيون تسيطر عليه قوى السوق، ومن هذا المنظور فإن التلفزيون السائد الرديء لا يأتي من فراغ بل هو نتاج لسياق أزمة منظومة التعديل في تفعيل فلسفة التعديل ذاتها التي قام عليها (وهي المفارقة التي عادة نمتنع عن التفكير فيها).

إن التلفزيون السائد لا يليق بنا ولا يعبر عما نحن عليه كتونسيين لأنه يحولنا إلى حمقى مستهلكين لا يعلي فينا سوى حاجتنا الطبيعية إلى الاسترخاء، ولا يعطينا الفرصة أن نكون أحسن مما نحن عليه، يقوم على إثارتنا عبر مشهدة السياسة بشكل يؤجج فينا الأهواء والمشاعر فيحولنا إلى كائنات عاطفية ومنفعلة. ولهذه الأسباب يهجر بعضنا التلفزيون أو يشعر بعضنا الأخر بالخجل عندما يشاهد بعض برامجه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات