يظلّ الإنسان العاقل الصاحي المتبصّر يبحث ويفكّر ويعبّر ويسعى محاولا فهم كنه الحياة متدبّرا الآيات والبراهين مترصّدا الإشارات والنفحات متصيّدا العبارات والكلمات لعلّه يعثر على سرّ الحياة ومعناها ويتحقّق بذاته ويتوازن ولكن بحلول الموت في مسرح الحياة وسلبه للأرواح وقبره للأحلام والأماني والأجساد يفقد المرء توازنه , فحضور الموت قانونا صارما ليعيد الإنسان الذي يواصل رحلة الحياة تنظيم وترتيب أفكاره ويدفعه معنى الموت للغوص في أعماق ذاته وتبيّن المعاني وروحها وفرزها من رسوم المباني وزيف الاشكال والمظاهر, فالموت باب الآخرة والولوج للدّاخل يتمّ بنزع لباس الدّنيا ومفارقة الرّوح للبدن. كما يجد الإنسان نفسه منخرطا مندمجا في مسار حياتي وفي مواجهة واقع يصنعه النّاس بإجتماعهم وتدافعهم وبنفسياتهم ومواقفهم فالكلّ يهرول ويسرع بحثا عن القوت والرزق وتحقيق المصالح.
عُمر الإنسان منهوب يمرّ كمرّ السحاب لتتالي الأيّام والليالي فتنقضي حقب تاريخيّة وأزمنة بتمامها وبحلوها ومرّها. والناس في حلّهم وترحالهم وسعيهم وإدبارهم بين واقع مشهود ظاهر جليّ وأمر إلاهي باطن مخفيّ تسوقهم خفايا الأقدار ويختارون لأنفسهم منبسطين في قالب الإختيار وأرض التّدبير منصرفين لقضاء شؤونهم غافلين تستوعبهم مواقيتهم إذ الحقيقة الإنسانية متوارية خلف هذا الإزدواج.
فظاهر باطنهم اشكال واشباح وباطن ظواهرهم معاني وارواح فيدركون بالحسّ والوهم عالم الأشباح ويعدمون عن الإدراك بالفهم والعلم عالم الأرواح. متى تنتقل البشريّة من عالم الحسّ والشهادة وتتخلّص من التعلّقات الدنيويّة والخيالات الوهميّة لترحل إلى عالم المعنى والملكوت؟ متى يتجاوز الإنسان الأنا الظاهرة الماديّة الأرضيّة إلى النفس الحقيقيّة الكونيّة؟ متى نتلمّس خيط الحقيقة الساريّة في الوجود وننفصل عن المظهريّة والسطحيّة والشكلانيّة؟ إن تلمّس حقائق المعاني بالتدبّر والتأمّلات وإتّخاذ مسافة الآمان عن دنيا المظاهر والظواهر خطوة نحو الطريق الصواب و الإستعداد للسّفر في رحلة تليق بكرامة وأهليّة وقابلية البشر.
1-الموت حقّ:
يبقى الموت الحقيقة الثّابتة الجاثمة على القلوب والعقول واللّغز المحيّر للألباب ينسى بغيابه ويبرز بطلّته وتغييبه للأهل ولأقارب والأحباب والأصحاب والجيران، فالموت حقّ ولا مفرّ منه ليحيل سعي الإنسان وشعوره وكلامه وبيانه إلى مجرد ذكرى حين يطرحه جثّة هامدة لا حراك لها فتغلق عينه عن عالم الدّنيا إلى الأبد ويغيب شبحه وخياله وشخصه وتفتح عين وجوده لعالم الغيب ليكتشف الحقائق المحجوبة لأنه قد كُشِف الغطاء عنه فالزّمان غير الزّمان الدّنيوي والحال غير الحال. لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (سورة ق آية22) كل ما على التّراب إلى الترّاب ولا بدّ للزّرع من حصاد والموت يحصد الأرواح لإنّ الرّوح وديعة وسوف تسلب. (كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام) سورة الرحمان آية 26 و27.
يطغى ظاهر الإنسان على باطنه وشكله يحجب معناه فهو روح في جسد قلب في قالب يستمتع بوجوده وتسبق شهوات جسده الفانيّة معاني روحه الباقيّة، فالدّنيا قالب الجسد سجن للرّوح والموت يخلّص الرّوح من الجسد لتفارقه إلى عالم الآخرة ويواري الجسد التّراب فما كان من التّراب إلى التّراب ماض وسائر.
2-الدّنيا والاخرة :
الدّنيا قٓبْلٌ والآخرة بٓعْدٌ ففي الدّنيا حياة البشر ونسج أحلامهم وسعيهم لتحقيق آمانيهم وكذلك فيها موتهم وقبورهم. الدّنيا ظاهر وباطن فظاهرها الأشكال والمباني والصّور وباطنها المعاني والأرواح والأسرار. الدّنيا مراحل ودورة حياة والموت نهاية المسار، "وهذه الدار لا تُبقي على أحد ولا يدوم على حالٍ لها شان ". مادام في الدّنيا مآسي ومصائب وإبتلاءات وفشل وكبوات وفراق ووداع فلا يهنأ للإنسان بال ولا يطمئن لحاله. يولد الإنسان بعد أن كان جنينا في بطن أمّه وينمو طورا بعد طورا فإذا إستمرّت حياته ينتهي شيخا هرما وهو قد مرّ بأطوار عديدة جسميّة ونفسيّة فمن غريزته وفطرته إلى عقله وهواه ونفسه ونرجسيته وكلّ على قدر كمال عقله وثبات حقيقته يحقّق ذاته ويتجرّد بمعناه.
يحقّق الإنسان في حياته وظيفة التّغذية بإمتياز تشاركه في ذلك سائر الكائنات الحيّة الأخرى وقد يتكاثر مخلّفا الأبناء والأحفاد،إذ الدنيا مجال سعيه وحركته وإنجازاته وتحقيق أحلامه وآماله وتغشاه بكثائفها وتاسر نفسه بتعلقاته وعوائقه الشّهوانيّة وتستوعب كيانه وتنجذب كل أحاسيسه الشعوريّة لكل ما هو دنيوي فاعضائه الحسيّة تستقبل شتّى التنبيهات والمثيرات ليستجيب بردود افعاله الإنعكاسيّة الحسيّة .
الدّنيا مسار الإنسان وسياقه ونسق حياته وصيرورته فهو المتغيّر التّابع للدّنيا وظروفها وأحداثها ووقائعها. يتعرّض في حياته إلى ثالوث سيف الزّمان ومطرقة الآفات وقوس الموت ولا مفرّ من هذا الأخير فلا ملجأ ولا حيلة للإفلات منه.
الزّمن ذاك المتغيّر المستقّل يؤثّر ويحدّد سلوك ومصير الإنسان فيبلى الجسم ويهرم ويقرّب الآجال ليودّع في بادئ الأمر طفولته وبراءته ثم شبابه ولتحلّ مرحلة الكهولة ثم الشّيخوخة فيفقد عديد المزايا لتقلّ حيويته ونشاطه وقد يكتسب نضجا وخبرة ومعرفة ولكن في المحصلة قد ودّع زهرة الحياة بدون رجعة فما فقده لا يرجع.
الآفات والأزمات والبلايا هي كملح الأرض لا تخلو منها الحياة لضعف الإنسان وعجزه وتعدّد الظروف وتضارب المصالح وإختلاف الأهواء وتعدّد الأسباب والمسبّبات ولتغيّر الأحوال في دنيا المتغيّرات والتعلّقات . الموت يُنهي رحلة الحياة ويفتح باب الآخرة ويغلق باب الدّنيا إلى الأبد. أمّا الآخرة فالبـعْد الاخر والوجه الاخر لحقيقة الحياة فسيقابلها الإنسان بكيانه وروحه ونفسه اليقظة لا الساهيّة، قد يغيب كيانه الحقيقي وجوهر روحه وحقيقة نفسه ومعناه في الدّنيا لدوام غفلته وثبات حماقته ليكتشف حقيقة ذلك في الآخرة.
الآخرة أصل وجذر معنى الخلود والدّنيا فرع ولاحق لمعنى البقاء والآخرة مقرّ والدّنيا ممّر فالدّنيا عمل بلا حساب والآخرة حساب بلا عمل لمن خبر ووعى وهي آية لكلّ صبّار شكور. الدّنيا جزء من الحقيقة وإنعكاس لبعض معاني الآخرة الذي يكتمل المشهد إجماليا بها , ذلك لمن وعى سرّ الوجود ومعنى الحياة,فالموت جسرعبور من عالم الدّنيا إلى الآخرة
. الآخرة محجوبة بالدّنيا والدّنيا حجاب للنّفس عن مطالعة الغيوب ولا يستمدّ اسرار ومعاني الاخرة إلاّ من عالم الغيب والوحي المبين. فهل وُفِّقٓ الإنسان في سلوكه من خلال تجاربه وعلمه وفهمه ليتغيّر ويغيّر وليرتقي من عالم المحسوسات إلى الإدراك المعنوي فيهتدي لقبس ومنارة الهدى وسبيل النجاة ؟
" 3-وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا" :
أمام الفائض من التجارب والنظريات والإنجازات البشرية قد يغترّ الإنسان ويتوهّم ويحسب نفسه أنّه يحسن صنعا فيطلق فرضياته وإحتمالاته وتصوراته عن الكون وعن مصير البشر ويقدّمها على أنها حقائق يقينيّة أو نظريات علميّة لا تشوبها شائبة معتقدا أنّها غير قابلة للنقض والنقد والدّحض.
هذا المخلوق في الحقيقة ما وعى حقيقة ذاته وما تبصّر نقائصه وعيوبه فالإنسان بالضعف والعجز موصوف لا يحيط إلاّ بما يحيط به بصره وسائر حواسه، فعالم الحسّ مجاله ومداره اعضاىه الحسيّة وسائله وأدواته ونتاجها أحاسيسه الشعوريّة وسلوكياته الإنعكاسية والإرادية. فكيف لهذا المحاط أن يحيط بما لم يحط به علما فما غاب عن دائرة حسّه محجوب عنه ليجزم بتمثلاّته وإحتمالات توهّمها يقينيات وهي من حصيلة افكاره وأوهامه وتخميناته بقياسات ومقدّمات تخطئ وتصيب ومنطق قابل للنقد والدّحض؟
غالبا ما يغلب هوى الإنسان عقله فينكر ما غاب عنه من حقائق فلقد سلبته اللّحظات والخطرات كياسته وأحاطت به الدّنيا من جميع جوانبها فأفقدته السّيطرة على أحاسيسه وأفكاره لتطفو غرائزه وعُقده وعواطفه وهوى نفسه لتتزايد بذلك إنفعالاته وردود أفعاله وإنحرفاته.
قد يَعْلم الإنسان ويُدرك بإجتهاده وخبرته وإختصاصه وفكره وعلمه فيكشف عن عديد المسائل والخفايا ويحُلّ عديد المشاكل والصعوبات ولكن يبقى علمه نسبيّا ضمن إحاطة وجوده وظرفيّة حياته ومستواه؛ ويبقى الله عزّ وجلّ "الذي خلق فسوّى والذّي قدّر فهدى " هو الأعلم والأحكم واللطيف الخبير بكل ما يقع ويحصل وما سيكون وما كان لأنه المحيط بكلّ شيء جلّ شانه لا يعزب عنه شيئا.
لكي لا يغترّ الإنسان فيغالي ويكابر ويفاخر ويناله العُجْبُ والغرور وليقف دون حقّه في الحياة مواصلا درب الكدح والكفاح والمثابرة متواضعا عالما بحقيقة ذاته وحدود نفسه متحقّقا بصفاته. (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) سورة لقمان آية 34 عجبت لمخلوق عاجز ضعيف مُحاط يُعاند خالقه في قضائه وقدره أو يُلحد في اسمائه ويُنكر الغيب او يَكفر بنعمه أو يصيغ افكارا وفلسفة بهواه تراعي الجانب المادّي في الحياة لاغية ما سوى ذلك أو تراعي الجانب الذّاتي للوجود الإنساني وحريّته بدون إعتبار لأي بُعد آخر أو تنحاز للمصلحة والمنفعة الشخصية دون سواها ؟ " هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا " سورة الإنسان آية 1 قد تغشى النّفس الظلمات والحُجب فيصدر الإنسان أفكارا وأراء مناقضة لفطرته وجوهر كيانه وحقيقة الكون ويُعاند ويُكابر ويكفر بمولاه ناسيّا نعمه الذّي غمرته منذ كان جنينا في بطن أمّه ويوم كان في المهد صبيّا ولكن عندما إشتدّ عوده ونمت بذرته حاد بفكره وهواه عن اصل وجوده وعن مولاه . ( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) سورة عبّس آية 17 الدّنيا فرصة للإنسان لكي يحيا ويتعلّم وهي مدرسة مفتوحة ليعلم ويعمل ويفقه أحواله وواقعه والعالم من حوله ويعي حقيقة ذاته ويعمل ساعيّا كادحا متواضعا عالما بحدوده ونسبيته وضعفه وعجزه ومآله فنهايته جثّة هامدة بلا حراك وإلى ربّها يؤمئذ المساق . قد أنعم الله عزّ وجلّ على المخلوق بنعمة الإيجاد والإمداد وجعله سميعا بصيرا مدركا ومتّعه بعديد النِعم الظاهرة والباطنة وعامله بحِلم ولطف ولكن بأيّ وعيّ وفكر وعقل وذوق وسلوك ردّ الإنسان الجميل؟ فلقد جحد غالبية النّاس النّعم.
لقد كرمّ الله عزّ وجلّ الإنسان وخلقه في أحسن تقويم ولكن هذا الأخير ابى أن ينحدر إلى أسفل السّافلين بإختياره وإرادته وتحكّم هواه وغلبة نفسه وشيطانه إلاّ ما رحم الله من عباده الذّين آمنوا وصَدَّقُوا وصَدَقُوا وعملِوا الصالحات فاولئك مُبرؤون من هوى نفوسهم ومن نكران جميل بارئهم. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون)َ سورة الشّعراء آية 227 أما أولئك الذّين ظلموا وتعدّوا على حقوق غيرهم بأنانيتهم ونرجسيتهم وتكبّرهم وعُجبهم وريائهم ولؤمهم وفسادهم ولسوف يُكشف عن الغطاء والحُجُب وتظهر الحقيقة النّاصعة ويندمون يوم لا ينفع النّدم لأنهم خسروا أنفسهم واتّبعوا أهوائهم وشهواتهم وما تُملْي عليهم شياطينهم وأخطئوا التّقدير وضلّوا الطريق بسوء إختياراتهم وتوجهاتهم.
"نسُوا الله فأنساهم انفسهم "بخواطرهم وافكارهم وأوهامهم سبحوا في لجّة الدّنيا فغرقوا في بحرها برعونتهم وطيشهم وعنادهم وإصرارهم وظنوا أنهم قد أحاطوا بكل شيء علما هكذا توهّموا وأيقنتها أنفسهم . هم الفاشلون قد قتلوا طفل المعنى في ذواتهم وداسوا على ارواحهم بماديتهم فخابوا ,إنّ أصلهم من تراب وإلى التّراب سائرون وفيه مثواهم ومآلهم ويوم الحساب " يعضّ الظالم على يديه " ويقول الكافر "يا ليتني كنّت ترابا ".