هل يمكننا الحديث عن راشد الغنوشي في تونس خارج منطق أعدائه الأزليين وآخرهم عبير موسي والذين رؤوا فيه دوما الشيطان الرجيم وخارج منطق أنصاره المقربين الذين رؤوا فيه دوما ملاك الرحمة ؟ لماذا نعود إلى السؤال الآن بالذات وتونس تخرج بصعوبة بالغة من جائحة آلمت اقتصادها ومجتمعها وإن أفلحت في التخفيف من أضرارها البشرية؟
لقد عاد الغنوشي كعنوان لمعركة أخرى أو بالتدقيق فصل آخر من فصول حروب الاستئصال على طريقة فأري التجارب "بينكي وبراين".
سبب السؤال الآن وهنا؟
خصوم الغنوشي السياسيين مصرون على فرضه محور اهتمام أول على التونسيين جاعلين منه فاعلا رئيسيا ولا ندري ما إذا كان الرجل راغبا في هذا الكم من الأضواء المسلطة عليه في هذه المرحلة ولكن التجربة الطويلة مع العراك السياسي في تونس تجعلنا نذكر كثيرين بأن الغنوشي لا يهزم ما دام خارج السجن. وقد ربح معاركه دائما. لكن لنحاول أن نفهم بعض سر الحملة القديمة المتجددة على الرجل.
هناك أفكار ومحاور تقود الحديث عن الغنوشي أولها حالة عدم الرضا عليه داخل حزبه والتي يحاول خصومه تعميقها والثانية نتيجة مباشرة لما يجري في ليبيا والغنوشي متهم بأنه مهندس القضاء على حفتر بواسطة السلاح التركي (يبدو الأمر سرياليا ولكنه مقبول كخلفية مواقف في تونس) أما الثالثة فهي شعور مر بهزيمة يتجرعها الذين ألبسوا الغنوشي وجماعته كسوة الإعدام مرات ثم أفاقوا على وجودهم في قيادة الدولة.
حبذا تفكيك حزب النهضة
الصراع على الانتقال القيادي في حزب النهضة ليست مسألة داخلية بل هي شأن عام يتداول فيه الكثيرون بحكم وزن الحزب على الساحة. البعض محايد فالحدث خبر والبعض مشفق فهو قريب أو صديق حريص على وحدة الحزب والبعض الآخر وهم الكثرة الغالبة يودون أن يدقوا الأسافين بين الصف الأول القيادي لينفجر الحزب من داخله فيريحهم من وجوده.
هؤلاء هم الذين يقسمون النهضة إلى نهضة ثورية وأخرى رجعية يقودها الغنوشي بالذات ولذلك يقربون أو يمجدون القيادة المتمردة على الغنوشي مثل عبد اللطيف المكي وهؤلاء هم من فتحوا المنابر لعبد الحميد الجلاصي المستقيل عسى أن يمزق الحزب فلما لم يفعل سحبوا عليه الستارة.
يصطدم هؤلاء دوما بأمرين:
أولهما قدرة الغنوشي على إدارة الحوارات داخل حزبه وفلاحه الدائم في لملمة الاختلافات بوسائله الخاصة فينتهون إلى أنه مادام الغنوشي يمسك الحزب في موقع أول فلا مجال للحلم بتفكيك النهضة. هؤلاء بعض الذين يحملون الآن على الغنوشي ويؤكدون خاصة على فساد ذمته المالية.
وثانيها أن النهضويين لا يصدقون ناصحهم بالتمرد على رئيسهم ولا يطمئنون إلى من سجنهم لعقود وهو يتودد إليهم راغبا في مصلحتهم الحزبية فالمكي مثلا (وهو عندهم زعيم النهضة الثورية) يتابع عن قرب خطاب تمجيده إذا تكلم عن تغيير قيادة الحزب ولكنه يتابع أيضا الحط من نجاحه كوزير صحة أفلح في قيادة الحرب ضد الوباء فقد أهّله نجاحه لا إلى قيادة حزبه فحسب بل إلى قيادة البلد وهنا لا يصير نهضويا ثوريا بل نهضويا فاشلا كبقية النهضويين.
تناقض هذه الموقف من المكي وأمثاله يصب في مصلحة الغنوشي الذي يشطب كل التحريض عليه بجملة واحدة "إنهم يستخدمونكم ضدي وضد الحزب".
بعض أعداء النهضة يمتنون بنيان النهضة كلما حاولوا تفككيها. والغنوشي سعيد بأعدائه.
المشكلة الليبية ودور الغنوشي
يوجد في تونس من يعتقد جازما أن الغنوشي قوي جدا حتى أنه يأمر الرئيس التركي أردوغان بالتدخل في ليبيا وتدمير حفتر لصالح حزب النهضة في تونس. فيسخّر التركي الجيوش من أجله. على التونسيين أن يواجهوا هذا الكم من الغباء كل يوم. فبعض ما يصيب حياتهم من عطالة سببه هؤلاء المحللين.
توجد علاقة لا ينكرها الغنوشي بل يفاخر بها مع الرئيس التركي كما أن لكليهما أصدقاء في طرابلس وأعداء مشتركون خارجها منهم فرنسا بالتحديد وهم متحدون على رؤية سياسية لقيادة المنطقة تخالف رغبات فرنسا الاستعمارية ولكن لا نظن أن الرئيس التركي جندي في خريطة الغنوشي الإجرامية. لا قيمة لظننا هنا فالذين يشنون الحملة على الغنوشي يصدقون أنفسهم ويعملون على كسر هذا العلاقة القائمة في أذهانهم.
اندحار حفتر في ليبيا وانكسار خطته في السيطرة هناك أصاب أنصاره في تونس بالجنون. فقد كانوا ينتظرون انتصاره لينجدهم في تونس ويقضون على خصمهم اللدود.
كانت إدارة العلاقة مع الوضع الليبي محل اتفاق ضمني بين الغنوشي والباجي قائد السبسي. في توزيع أدوار يحمي البلد من كل مغامرة خارجية دون اصطفاف مع شق واحد. وفاة الباجي واختلاف الرؤية بين الغنوشي وسعيد في ليبيا جعلت الغنوشي يبادر بتهنئة السراج المنتصر فثارت ثائرة طابور حفتر في تونس ولذلك شنت عليه الحملة وهو يساءل أمام البرلمان بتهمة تجاوز صلاحياته مع شحنة تحريض الرئيس ودائرته الموالية لحفتر على رئيس البرلمان عسى أن تنفجر تركيبة السلطة في صراع بين الرجلين تؤدي إلى حالة حرب فانهيار داخلي.
لقد بنى أنصار حفتر صورة للغنوشي الخارق وصدقوها فظهر لهم كأنه الحاكم الفعلي في جيش تركيا وفي ثوار طرابلس وهم يأتمرون بأمره ويريدون إقناع قطاع واسع من التونسيين بأن هذه الرؤية سليمة وليست مجرد هلوسات سمجة تبني عليها مواقف استئصالية ضمن الرؤية القديمة إياها تونس بلا تيار ديني. الحملة على الغنوشي في تونس تستند إلى هذه الهلوسة وعلينا تحمل كلفة ذلك سياسيا بتعطيل البرلمان والحكومة في لحظة الخروج من كارثة الكورونا.
الغنوشي يفسد عليهم جلستهم
لم نقرأ خلال عقود نقدا سياسيا حكيما لفكر الغنوشي ولم نقرأ بعد الثورة نقدا سياسيا لما يفعل الغنوشي لقد وقعنا دوما على أفكار تلغي الغنوشي وحزبه فهم لا يستحقون الحياة. الأفكار القليلة التي يمكن احتسابها في النقد الفكري والسياسي ظهرت عند قلة من المفكرين الذين وقفوا خارج خطة الاستئصال فاتهموا بأنهم يقبضون من الغنوشي. وقد طالت هذه الاتهامات مفكرا في حجم هشام جعيط. فكل من ينقد بلا خلفية استئصالية يصير عميلا للغنوشي.
وعندما نطرح السؤال الآن لماذا يساءل الغنوشي دون غيره من الوجوه السياسية الفاعلة في المشهد يصير هذا السؤال تبريرا وتغطية على الغنوشي كأن الآخرين ملائكة أطهار رغم أن ملفات البعض منهم وخاصة النقابيين مطروحة للنظر القضائي وقد دخل بعضهم السجن بعد بجرم فساد مثبت.
الحملة إذن مسألة قديمة تتجدد يختلف الفاعلون قليلا ولكن البرنامج واحد. يمكننا القول بكثير من المرارة أن أمور البلد معطلة لأن فئة من التونسيين لا يطيب لها أن تشرب كأسها وشاشتها تعرض صورة الغنوشي رئيس البرلمان. لقد عرضت شاشاتهم يوما صورته منفيا وصورة رجاله بلباس الإعدام فطاب لهم ذلك ولكن يقظتهم على صورته حاكما يخطط مصير البلد يفسد حساءهم وينغص وجودهم لذلك يستعيدون كل لغة الإقصاء ويبحثون عن أحلاف حتى عند حفتر الغبي فالمهم أن يفيقوا يوما على تونس بلا غنوشي ولا نهضة.
إنهم لم ينتبهوا بعد إلى أن قوة الدولة التي مكنتهم من رقبة الغنوشي ورجاله قد تفككت وأخذ منها الغنوشي نصيبا كبيرا. يحتمي به ويحمي به مسار تقدم الحريات ففي مسار الحريات انتعش الغنوشي وعاش وتمكن وحجّم رغبات خصومه (أعدائه) في محوه.
الغنوشي مستثمر جيد في الحرية. وقد عرف منذ زمن أن الحرية وحدها تقضي على أعدائه. لذلك يعمل على ضمانها ويتحمل كلفتها فمغنمها كبير له ولأنصاره. ثمة أمر آخر يغيب عن أعداء الغنوشي لقد ظهرت فئات من التونسيين حريصة أكثر من الغنوشي على مسار الحكم بالصندوق الانتخابي لا بالانقلاب ولا بحفتر وهؤلاء يعملون ولو دون علمهم على نصرة الغنوشي على خصومه لأنهم يشاركونه في الحفاظ على مناخ الحرية أي على مناخ الحكم بالصندوق الانتخابي.
هنا ينتصر الغنوشي دون جيش أردوغان.