أجد خجلا من الكتابة في موضوع اعتصام الرحيل الثاني المزمع في تونس، فهو نكتة لا تضحك حتى منظميه، ولكن رُب نكتة تكشف حالة حزينة أو جديرة بالشفقة.
منظمو اعتصام الرحيل الثاني كلفوا ناطقة رسمية ورئيسا لجبهة الإنقاذ، كأنهم ذاهبون فعلا إلى تغيير الحكومة والدولة. يجب أن يتحلى المتابع بالكثير من طول البال ليصبر على أخبار مماثلة، ولكن العزاء أنه يتابع نهايات وبيلة لقوم لم يؤمنوا أبدا بأن ثورة حدثت في البلد وأن البلد يدار منذ عشر سنوات بطريقة ديمقراطية؛ تتقدم بصعوبة ولكنها تجب كل أعدائها بالجملة أحيانا وبالقطاعي غالبا، وآخر القطع الساقطة هي قيادة اعتصام الرحيل الثاني الذي سيكون هذه المرة رحيلهم النهائي إلى ما وراء التاريخ. فقد غيّر التاريخ مساره وغيّر أبطاله، ووضع له بوصلة أخرى تشير إلى ديمقراطية ثابتة وفيها مكون إسلامي لا يمكن إقصاؤه أبدا، ولو بالاستعانة بحفتر ومن يحرك حفتر.
اعتصام الرحيل الأول
لنتذكر شيئا من التاريخ القريب: اعتصام الرحيل الأول. كان المقصود به رحيل الحكومة التي أفرزتها انتخابات 2011، أي الأولى بعد الثورة والتي كان حزب النهضة مكونا أساسيا فيها، فترأسها وملك أغلبية المجلس التأسيسي واتخذ له شركاء مؤمنين بالثورة (حزب المؤتمر/ المنصف المرزوقي وحزب التكتل/ مصطفي بن جعفر) فبقيت كل مكونات المنظومة القديمة خارج السلطة التي تمتعت بها طيلة ستين عاما، تغالب شعورا عميقا بأن الثورة قضت عليها وأنها في طريق الاندثار النهائي.
قبل الاعتصام كانت المنظومة قد جمعت نفسها في حزب النداء بقيادة الباجي قائد السبسي، أحد أركان نظام بورقيبة وابن علي، فأفلح معتمدا على اليسار الاستئصالي في تجميع كل الخاسرين من الثورة، وحالف كل أعدائها في الخارج، واستفاد من اغتيالات سياسية، فهزّ شرعية الحكومة المنبثة عن الثورة وألّب عليها الشارع، ثم قرأ بذكاء اتجاه الأحداث في مصر بعد الانقلاب على الحكم المنتخب هناك، وأعلن تنظيم اعتصام الرحيل في صيف 2013.
ولم يحل الخريف حتى كانت حكومة علي لعريض تعلن نهايتها وتستعد للرحيل، ليعود الحكم بشكل تدريجي لمكونات المنظومة التي فازت بانتخابات 2014، فتعود للحكم وتركن قوى الثورة في موقع بعيد خلفها. لكن خمس سنوات كانت كافية لتفكيك المنظومة من جديد بقيادة حزب النهضة؛ الذي لم يبتعد وناور بذكاء حتى عاد حزبا أول يتحكم في المشهد السياسي برمته، وعاد الحالمون بطرده مرة ثانية، لكن أنّى لهم؟
الرحيل الثاني نكتة
إذا كان اعتصام الرحيل الأول فعالا فإن الثاني سيكون نكتة سخيفة؛ لا لجهة الأشخاص القياديين الفاقدين لكل سمعة ولكل أهمية ولكل فكرة فحسب، بل لأن الظروف الداخلية والخارجية تغيرت بشكل شبه كلي، بما يحرم هؤلاء الأطفال التافهين فرصة العثور على حليف جدي يمولهم ويسندهم سياسيا وإعلاميا، فيعطي لحركتهم تأثيرا ممكنا على اللحظة التي يعيشها البلد، خاصة وهو يستعد لمعالجة آثار وباء كورونا ويحتاج كل الهدوء السياسي الممكن ليخفف من أثر الكارثة الصحية على اقتصاد مهلهل. إذن إذا كان بهذه السخافة، فلم حظي بهذا المقال؟
هذا المقال ليس عنه، بل عن الفراغ الذي خلقته الثورة حول كل محاولة تخريب فوجدت نفسها في الفراغ. الثورة المضادة في تونس حلت في الفراغ، وهي تسقط وسيوجه لها أطفال الاعتصام (أبطال الديجتال) ضربة قاصمة عندما ينسحبون في اللحظة الأخيرة بمبررات مثيرة للسخرية؛ تكشف نهايتهم ورحيلهم، فيكون اعتصام رحيل المعتصمين لا رحيل الحكومات.
طبقة رأس المال التي مولت اعتصام الرحيل الأول تبحث الآن عن ملجأ، وهي هاربة أمام حكومة لم يعد لها بدورها مهرب من متابعة هؤلاء الفاسدين. الشارع التونسي الموالي للثورة يطارد الحكومة لتطارد الفساد، والفساد يجنح للسلم باحثا عن منافذ ولن يكون منه التحريض على المؤسسات القائمة، بما فيها البرلمان الذي يترأسه زعيم الحزب الإسلامي.
إذا فقدت هذه الطبقة حماسها لتقوض الوضع القائم فقدَ اليسار التخريبي دوره، فهو لم يكن إلا أداة بيد هذه الطبقة تستعمله حيث تشاء ويقبض ويعيش تحت شعارات ثورية؛ فهِمَ التونسيون أنها ليست أكثر من فزاعات تمويه كالتي توضع في المزارع لطرد العصافير.
اليسار التونسي بما فيه الذين تسربوا إلى الحكومة الحالية يسقطون في منطقة الفراغ التي خلقها الصبر على تأخر نتائج الثورة (وهو صبر الإسلاميين بالأساس). لن يكون اليسار في اعتصام الرحيل الثاني لأنه اعتصام بلا ممولين وليس فيه مكاسب مباشرة. سيدعم إعلاميو اليسار المتمركزون في مواقع متقدمة كل محاولة تشويش على الح كومة، ولكن لن يتقدموا الصفوف هذه المرة، فلا فلوس في الأفق.
الصبر والمطاولة كشفا المرتزقة، فسقط الاعتصام الثاني في الفراغ. إذن هل نجت الحكومة ونجا البرلمان من الاعتصام القادم قبل حدوثه؟
ليس بعد فالطريق طويل
كانت مراهنة شق من التونسيين على انتصار عسكري يحققه حفتر في ليبيا عملية كاشفة لعمق الاختلاف بين التونسيين، فبعضهم يود الاستعانة بعدو خارجي لذبح شركاء الوطن. هذه التحالفات مخيفة، وهي قابلة للرجوع في أية لحظة يتبين فيها عدو في الجوار. فبعد حفتر يمكن أن يظهر حفتر الثاني ليواصل نفس المعركة التخريبية، وينتظره تونسيون لينتقم لهم من شريك الوطن.
منطقة الفراغ الأخلاقي حول الثورة مخيفة فعلا وغير قابلة للردم بسهولة، ولا علاج لها إلا المطاولة والصبر والتقاط المؤشرات الإيجابية، مثل هروب كل الوجوه السياسية المعارضة من الاقتراب من اعتصام الرحيل الثاني، وخاصة بعد اندحار حفتر في الغرب الليبي، حيث فقد هؤلاء الأمل في فتح حفتري.
وضعت حكومة السيد الفخفاخ في رصيدها انتصارا طبيا على وباء خطير بأقل الإمكانيات المتاحة، وكان في مقدمة جيش الحكومة وزير صحة فذّ قاد المعركة وأحسن توظيف الطاقات، ووفّر لحكومته انتصارا ولحزبه سمعة حسنة. فكثير من الناس مما نجا من لوثة الأيديولوجيا يقول الآن إن النهضة ليست جماعة من الفاشلين كما صورها الإعلام المعادي لها.
رصيد الحكومة يجعلها واثقة من فشل مؤشرات العبث بالسلم الاجتماعي الضروري الآن لمواجهة ما بعد كورونا. بل إن هذه الثقة عبرت عن نفسها بالتراجعات المكشوفة لما كانت النقابة قد أعلنته من تصعيد مجاني ضدها، ثم اندحار سريع بعد لقاءات مع رئيس الحكومة، بما يؤشر على أن الحكومة في موقع قوة والنقابة اليسارية في موقع تراجع يجعلها على حافة السقوط في الفراغ الذي سقط فيه كل معاد للثورة، وقد سقطت مكوناتها في العنف العنصري.
في اللحظة الكاشفة يندحر حفتر، ترتعب طبقة رأس المال الفاسد، يعرض اليسار عن نضال غير مؤجر، تنجح الحكومة في علاج الوباء، فيتحول اعتصام الرحيل إلى طرفة الصيف يمكن التسلي بها بعد قلق كورونا.