1 ـ لا شكّ في أنّ الحريّة المعمّدة بالدماء الزكيّة هي المعطى الأجلّ والأشرف والأبقى. والحريّة هي السياق الذي مكّن للإدارة أن تحرّر في انتظار أن تُصرّف في ما ينفع الناس.
وإذا كان مناهضو الاستبداد معذورين في ظلّ الاستبداد بندرة عطائهم في عالم الفكر والآدب والفنون والإعلام، فإنّ سقف الحريّة العالي يقوم إدانة صارخة لتقصيرهم بل لعجزهم عن الإبداع في الميادين المذكورة...ويكفي شاهدا مجال الإعلام والإخفاق فيه والعجز عن الشروع في بناء إعلام مهني حرّ وهادف. والاندحار أمام صولات إعلام اللوبيات والمصالح القديمة الجديدة. وكان لهذه الهزيمة الإعلاميّة أثرها البالغ على مسار تأسيس الديمقراطيّة وإعادة بناء ما تهدّم اقتصاديّا واجتماعيّا وتجويد العيش.
اخترت الإعلام لأنّ للآداب والفنون وضعا آخر فنسق تبدّلها مختلف عن نسق الحياة اليوميّة السريع. وممّا ثبت عند أهل التدقيق أنّ الفنون تسبق الثورات فتكون من مستوياتها وتليها فتكون من نتاجها. فالثورة السياسية لا يقابلها آليّا ثورة في الفنون والرؤى الفنيّة. ولكنّ في الإعلام هو أن يكون للتحوّل السياسي الاجتماعي صورته في الإعلام. ولذلك لا عذر لسياق سياسي جديد لم يصنع.
2 ـ من الأمور المهمّة التي أنجزها السياق الثوري في صمت أمرا يبدو جانبيّا ولا نكاد نلتفت إليه. وقد ينبّهك إليه تجربة شخصيّة أو صديق فطن أو كاتب متميّز.
هذه المهمّة تتمثّل في قطع الخيط الواصل بين المؤسسة الأمنيّة وشُعب التجمّع. وفي تاريخ الدولة منذ الستينيات كانت القوادة هي المهمّة الأكثر ارتباطا بالشعبة وعضو الشعبة والدلالة عليهما. وهذه الصورة الوضيعة غطّت على صورة لم يعرفها جيلنا إلاّ سماعا وهي ارتباط عضويّة الشعبة بالنضال الوطني ومكافحة المستعمر والعمل على تحرير البلاد. هذا كان قبل الخلاف داخل التيّار الدستوري الذي تصدّر الحركة الوطنيّة.
ولكن في سياق الخلاف اليوسفي البورقيبي وامتداده في الزمان واشتداد القمع البورقيبي ترسّخت صورة عضو الشعبة القوّاد. وفي نهايات حكم بورقيبة بلغت القوادة والوشاية بمعارضي النظام منتهاها وتدخلت الشعبة في شؤون العائلة بما فيها ختان الأطفال. وصارت عبارة "يا مطهّر في الشعبة" سبّة موجعة لأنّها تشير إلى منتهى الخضوع السياسي والإذلال الاجتماعي.
مع بن علي تغيّر الأمر. ولعلّ إضافة بن علي هو مقاربته الأمنيّة فكان يسيّر البلاد بعقليّة "رئيس مركز". فكان للأمن والبوليس السياسي دور حاسم في الإدارة. وكان عنده في قصر قرطاج ما يشبه حكومة الظل، بل الحكومة الفعليّة. وجعل من التجمّع عين الجهاز الأمني التي لاتتنام. استعمل بن علي اليسار الوظيفي في قمع المعارضين فصار منهم لسانه الذي ينطق به ولجان تفكيره التي تنتج الخطاب السياسي في أكاديميات التجمّع التي وظف لها عناصر من تيّارات أخرى منهم من يتصدّرون المشهد الثوري اليوم.
فالشعبة التي كانت في السابق خصم كلّ المعارضين صارت صديقا لبعضهم بل وتأتمر بأوامر بعضهم سواء كانوا قيادات في التجمّع أو في جهاز البوليس السياسي ومنظومة التعذيب أو في الحكومة.
ما قامت به الثورة هو قطع هذا الخيط الرابط بين المؤسسة الأمنيّة القامعة والشعبة. وكان لعمليّة القطع الفذّة هذه أثر كبير على التقدّم في المسار الديمقراطي.
وقامت محاولات من قبل مجاميع إيديولوجيّة رضيت بمهمّة البوليس الإيديولوجي والبوليس السياسي في حكم بن علي ومن قبل بعض لوبيات الفساد لإعادة الصلة بالمؤسسة الأمنيّة عن طريق "النقابات الأمنيّة" وحقّقت بذلك أهدافها في إرباك المسار ولكنّ السياق الثوري همّشها رغم قلّة الوسائل. ولم يبق من التجمّع اليوم إلاّ بقايا بوليس سياسي سكن الجبهة الشعبيّة الراحلة وبعضه لاجئ حزبي في محمد علي متنكّر في صورة نقابي وبقايا من فاشيّة التجمّع تعبّر عنها الزغراطة. ولن تخطئهما الأذن اليوم إذ تدلّ عليهما عبارتان في الخطاب: "الجهاز السرّي" و"الخوانجيّة"..فالخطاب يكشف هويّة المتلفّظ به. وقد يستعملهما بعض الدغف، ولا تعديل على "المستدغفين.
هذا الإنجاز ليس بهيّن وهو إلى جانب عوامل أخرى يدفع المؤسسة الأمنيّة حثيثا نحو "منوال الأمن الجمهوري" لحماية البلاد والديمقراطيّة. وهو مسار محفوف بالصعاب ولكنّه بالغ مداه.
3 ـ إنجاز آخر مهمّ تحقّق مع الثورة هو صياغة الدستور وبناء النظام السياسي الجديد. ورغم أنّ دعائم هذا النظام لم تُقَم كلّها إلاّ أنّ ما استقام منها في مستويات ثلاثة من الدولة: رئاسة الجمهوريّة والحكومة والبرلمان كما تقرّر في صريح الدستور، صمد في وجه أعاصير شديدة ومحاولة.
ويقوم فرق لطيف من المهمّ الانتباه إليه. لأنّه يمنحك التمييز الحقيقي بين القوى المنتسبة إلى الديمقراطيّة والمدافعة عنها والقوى التي تناهضها مباشرة أو التي تناهضها مداورة وكلاهما يرى في الديمقراطيّة تهديدا. هذا الفارق يتمثّل العلاقة بالنظام السياسي الذي بنته الثورة. فالقوى المنتسبة إلى الثورة لم ترفع شعار إسقاط النظام إلا مرّة واحدة. حين كان المعني بالإسقاط نظام بن علي. ولكنّ قوى جمعت بين القديم وبعض ممن انتسب إلى الجديد رفعت هذا الشعار في 2012 ثلاثة أشهر بعد تشكيل حكومة الترويكا الأولى. وتكرّر الأمر في 2013 بعد الاغتيالين السياسيين، وفي كلّ منعرجات الانتقال الديمقراطي. وكان جانب من رموز النظام القديم يدفع إلى ذلك قبل أن يجنح عقلاؤها ومن لهم صلة بثقافة الدولة إلى التسوية مع انتخابات 2014. وتكرّر شعار إسقاط النظام من قبل أراذل المنظومة القديمة وبيادق اللوبيات وفئة من اليسار الوظيفي سوغت عودة القديم وقطعت الطريق. واليوم يلتقي حفتريش المنظومة مع سي الجيلاني ومن هو مثله من المجاميع الإيديولوجيّة لإسقاط النظام أو جزء منه (البرلمان).
من المهمّ ملاحظة أنّه من خلال التداول على الحكم الذي حصل بين القديم والجديد في السنوات العشر هذه يتبين التزام القوى الجديد المفوَّضة انتخابيا بنتائج الانتخابات. كان هذا في 2011، وفي 2014، وفي 2019 أيّا كان الجهة السياسيّة المفوّضة من قبل الشعب لتسيير المرحلة. في حين القديم بنتائج الانتخابات عندما لم تكن في صالحه. وذلك في 2013 بالانقلاب على حكومة منتخبة باسم الحوار الوطني. وفي 2019 يتكرّر الأمر نفسه. حتّى أصبحت "حمّى إسقاط النظام" موسميّة تأتي مع كلّ انتخابات لا تفوّض القديم أو من يمثّله من اللوبيات والمجاميع الإيديولوجيّة البائسة. ولا حرج من أن يكون لأجندات خارجيّة مناهضة للديمقراطيّة دعمٌ ظاهر.
هذا الفارق بين القديم وحلفائه من بقايا اليسار الوظيفي ومن تمّ تفويضه من الجديد في الثقافة الديمقراطيّة له صورته السياسيّة في مستويين مهمّين:
فرض الصراع الديمقراطي على القديم ومشتقاته، رغم ما يعتريه من نوبات كلّما همّشه الاختيار الشعبي الحر فيعود إلى فكرة الانقلاب ولكنّ في كلّ مرّة أضعف من سابقتها واردأ…فالقديم لم يعد له وجهه السياسي يفاوض به نظيره، ولا هو قادر على التعبير السياسي، وهذا من علامات عجزه واتجاهه إلى الاضمحلال مع الوقت.
الخطوة السياسيّة الثابتة هو أنّ هذا الصراع يتمّ تحت سقف الدستور. وقد تمّ جرّ الجميع إلى الصراع الديمقراطي تحت سقف المنظومة الديمقراطيّة…
سيقول البعض: على أهميّة كلّ هذا فإنّ العجز عن تحقيق تقدّم في الموضوع الاقتصادي الاجتماعي هو الحقيقة التي تدمغ كلّ الحقائق. هذا صحيح نسبيّا ولكنّ الانتباه إلى أنّ الانتقال الاجتماعي الاقتصادي مشروط باستكمال الانتقال السياسي بما هو اجتماع لنصيب السلطة الذي يمَكّن من إنفاذ السياسيات، دون أن يعني ذلك تأجيل المشغل الاجتماعي الاقتصادي، ولن يتمّ استكمال الانتقال السياسي دون تسويات كبرى تاريخيّة لا نرى شروطها اليوم…إذ لا يمكن ان نضع حجرا على حجر إذا لم نتّفق في مبدأ البناء حتّى قبل الاتفاق على نوع البناية، وإن كان الأمران مترابطين، وهذا ما نعرفه اليوم…فضلا عن كون الدولة مازالت تبحث عن قاعدتها الجديدة التي تقيمها وأساسها الذي تستقرّ عنده…