"لا استطيع التنفّس..أرجوك لا تقتلني" كانت تلك آخر عبارات لفظها "جورج فلويد" قبل أن يلفظ أنفاسه و هو جاثم على الأرض ،مثبّت الحركة،مكبّل اليدين و ركبة شرطي تضغط بقوّة على رقبته مانعة عنه الهواء،ثمان دقائق و بعض الثّواني كانت كافية لتسري البرودة في جسم فلويد و تحوّله إلى جثّة هامدة،لتنقل الجريمة عبر هواتف الحضور الّذين مُنعوا من التدخّل و تنطلق شرارة احتجاجات تزداد سخونة و زخما و تنتشر كما النّار في الهشيم في عموم المدن الأمريكية.
ولا شكّ أنّ تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية والاجتماعية كانت مؤثّرة وفاعلة وممّا زاد الطّين بلّة وأذكى لهيب التّظاهرات هي تصرّفات الرّئيس الأمريكي ترامب الرّعناء وشطحاته وتصريحاته المستفزّة الّتي كانت كما الزّيت الّذي يُسكب على النّار.
لا زالت الاحتجاجات مشتعلة لليوم الرّابع على التّوالي ولا بوادر لانفراج قريب فما هي تداعياتها على مستقبل ترامب في الانتخابات القادمة وهل سيكون لها تأثير على الولايات المتّحدة الأمريكية والعالم في المدى القريب أو البعيد؟
"لا استطيع التنفّس " بالانكليزية:
قُبض على "جورج فلويد"المواطن الأمريكي ذي الأصول الإفريقية والبالغ من العمر46 عاما أمام أحد المحالّ التّجارية في مدينة مينيابوليس يوم 25 مايو الماضي بعد أن أبلغ عنه بائع تلقّى منه ورقة نقدية مزوّرة (20دولار) نظير علبة سجائر، ويبدو أنّه صار يعيش بطالة بعد أن فقد شغله كحارس أمني نتيجة لجائحة كورونا، وللمصادفة أنّ أحد الّذين قبضوا عليه والمتسبّب الرّئيسي في موته وهو الشّرطي"ديريك ماشوفين"كان زميله في العمل كحارسي أمن أحد الملاهي إلى حدود نهاية العام المنصرم.
قاوم الضّحية في البداية عملية الزجّ به في سيّارة التوقيف و هو المعروف عنه إصابته بفوبيا الأماكن المغلقة، ليتمّ الإطاحة به أرضا و تثبيته من قبل شرطيين و هو مكبّل اليدين ليقوم ثالث بالضّغط بركبته على رقبته و استمرّ في ذلك منتشيا و غير عابئ بتحذيرات الحضور و لا باستغاثة المسكين وهو يردّد:"لا استطيع التنفّس..أرجوك لا تقتلني" ليخمد صوته و تسكن حركته و يغيب إلى الأبد، 8 دقائق و 46 ثانية كانت كافية لأن تحوّله إلى جثّة هامدة،مشهد فظيع عرّى ما في مجتمع يدّعي التحضّر و الإنسانية من وحشيّة و عنصرية.
فالمجتمع الأمريكي رافع لواء الحرّية وشعارات المساواة والعدالة والتنوّع الثّقافي والإنسانيّة زيادة على فظاعات التّأسيس الّتي راح ضحيتها ملايين السكّان الأصليين وجرائم التثبيت والتمكين والهيمنة والتوسّع منذ هيروشيما وناكازاكي إلى الفيتنام وأفغانستان والعراق حيث راح ضحيّتهم الملايين، لم يخل يوما من ممارسات عنصرية مقيتة تستهدف"الملوّنين" خصوصا السّود ذوي الأصول الإفريقية برغم قانون 1965 الّذي ساوى بين جميع المواطنين وكان ثمرة كفاح ونضال"مارثن لوثر كينج" و "روزا بارس" وغيرهم.
ففي سنة2010قتلت الشرطة الأمريكية بدم بارد الشّاب الأسود "أوسكار غوانت" ليتحق به في حادثة مشابهة "ايتوني لامارسمت"بعد عام، ليكون الضّحية سنة 2014 "مايكل براون" لتشهد مدينة بالطيمون حادثة مشابهة في السّنة الموالية، أمّا في عام2018 فقد سُجّلت جريمتان استهدفت الشّاب العشريني "ديانتي بارير" وستيفن كلارك"الّذي أفرغت الشرطة في جسده 20طلقة من الخلف وهو الأعزل الّذي لا يمثّل خطرا مفترضا عليهم.
في كلّ عام تقريبا تتكرّر حوادث قتل يقترفها أفراد شرطة" بيض" لمواطنين من الدّرجة الثانية" سود"، لتندلع بعض الاحتجاجات وتخمد بعد حين ولتقام محاكمات للمتّهمين لتبرّئهم أو لتعتبرهم مرضى نفسانيين وفي أحسن الحالات تصدر في حقّهم أحكام مخفّفة هي رفع للحرج وذرّ للرّماد في العيون.
و ما ميّز الاعتداء العنصري الرّوتيني هذه المرّة فظاعته الّتي نقلت عبر وسائل الاتّصال الاجتماعي ممّا أشعل لهيب احتجاجات اذكي نارها ترامب بتصريحاته المستفزّة الّتي تنضح عنصرية، فهو الّذي أبدى تفهّمه لاحتجاجات مسلّحة من قبل أنصاره "البيض" للمطالبة برفع الحظر و الإغلاق النّاجم عن الجائحة ها هو يلوّح بالعصا الغليظة تجاه المتظاهرين الغاضبين المحتجّين على جريمة عنصرية فظيعة و هو ما تمّ بالفعل ليقبض على المئات و يسقط 4 قتلى في مينيابوليس ويجرح العشرات بعد أن احتدّت الاحتجاجات و اتّسعت و انتشرت في جميع الولايات.
يقول مارثن لوثر كينج:" أعمال الشغب لغة غير المسموعين" أمّا أوباما فقد برّر احتجاجات بالطيمون و فسّرها بعدم المساواة في الفرص و انعدام الأمل في الوصول،أمّا ترامب و إدارته الحالية فقد ارتأت أن تتّخذ منحى معاكسا ربّما لدواع انتخابية و أكيد لبعض الميول العنصرية.
من الواضح أنّ ترامب كما تصفه الصّحافة الأمريكية هو شخص شعبويّ يفتقد للحكمة والخبرة وتدخّلاته بقيت في مستوى ردود الأفعال الغريزية دون رؤية إستراتيجية وهو المقامر المغامر المسكون بجنون العظمة قد لا يدرك أنّه لا يغامر بمستقبله السّياسي فقط بل بمستقبل الولايات المتّحدة الأمريكية كلّها واضعا إيّاها على صفيح ساخن.
فالاحتجاجات لم تقتصر على السّود فقط بل شملت فئات واسعة من المجتمع الأمريكي ممّن اكتووا بفساد النّظام الرّأسمالي المتوحّش لتتدرّج المطالب ككرة ثلج وتتطوّر الشعارات من التنديد بالعنصرية إلى مطالب اجتماعية وسياسية إلى حدّ المطالبة بإسقاط النّظام كما غرّد بذلك الممثّل العالمي" روبير دي نيرو" ومن الملفت أن يقع إحراق العلم الأمريكي في إحدى المظاهرات وهو مؤشّر خطير له دلالاته.
"لا استطيع التنفّس" بالعربي :
"لا استطيع التنفّس" ليست غريبة على مسامعنا فقد صرخ بها الأستاذ جمال خاشقجي حينما أطاح به الضّباع و وضعوا رأسه في كيس قبل تقطيع جثته بمنشار و صهرها في فرن، جريمة نكراء كان مسرحها قنصلية السّعودية في اسطنبول ،لا يزال مرتكبوها يرتعون و ينعمون بالحرّية دون عقاب بل إنّ أهله اجبروا على العفو على القتلة في واقعة قتل غيلة لا عفو فيها، و يستمرّ من أصدر الأوامر في ممارسة جرمه ليعيد الكرّة مع عبد الرّحيم الحويطي ذاك المواطن الّذي استشهد دفاعا عن أرضه ، و الدّكتور عبد الله الحامد الّذي قُتل عمدا بالإهمال الطبّي فالوسائل متعدّدة و الموت واحد.
أمّا في مصر فقد كانت"لا نستطيع التنفّس " صرخة جماعيّة لموقوفين في عربة ترحيلات كدّّسوا فيها كما في علبة سردين لتجاب استغاثتهم بقنبلة غاز أجهزت عليهم في الحين، كان ذلك في أوغسطس سنة2013 أيّاما معدودة بعد مجزرة رابعة المروّعة.
و أكيد أنّ الصّرخة قد أطلقها آخرون ممّن لا نعلمهم في سجون الطّغاة العرب و في فلسطين، و من المضحكات المبكيات أنّ الإدارة الأمريكية انتهكت حقوق الملكية الفكرية العربيّة إلى حدّ أنّ ترامب يتحدّث عن مؤامرة و أياد خارجيّة و يتوعّد بمزيد من الحزم في انتظار أن نسمعه ينطق بتلك الكلمة الشّهيرة الّتي سبقه إليها الطّاغية بن علي:"غلطوني" .
لا أستطيع التنفّس قيلت أيضا في جميع الأصقاع وبكلّ اللّغات وحيثما ساد الظّلم واستبدّ الطّغاة وهي أيضا زفرة بقيت حبيسة في صدور المستضعفين في الأرض الرّازخين تحت ثقل اكراهات الحياة والضّغوطات.
قتل "جورج فلويد" بدم بارد فاشتعلت الولايات المتّحدة الأمريكية ولا زالت الاحتجاجات تزداد زخما واتّساعا فهل سيكون "بوعزيزي" جديد وإرهاصات لصيف ساخن وربّما حارق قد يعصف بترامب وبكلّ من راهن عليه من الطّغاة؟