استشعر وكأنّ جائحة الفيروس كان لها أثرا عكس ما كنت آمله وطوباويتي قد اوهمتني بأنّها كانت فرصة لا تتكرّر للتأمّل ومراجعة الذوات واعادة ترتيب البيوت والأولويات ومناسبة للإصلاح ومحاولة لاستعادة انسانيتنا، فإذا بي وأنا أشاهد ما وقع بالأمس تحت قبّة البرلمان استفيق من حلمي على واقعنا المرّ التّعيس، لم يزدنا الحجر المفروض سوى تحجّرا وفرقة وتفثّتا.
كان من المفترض أن تكون الهبّة و " الفزعة" الاستثنائية الّتي شاهدناها من أجل تقييم الأوضاع وإيجاد حلول لمشاكل حارقة ومستجدّة فرضتها أزمة غير مسبوقة لم تستثن أحدا وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية جليّة ولا تخفى على عين، فاذا بنا نجرّ مكرهين الى معارك دون كيشوت لطواحين الهواء ونٌدفع الى مربّع الصّراعات الهوويّة العبثيّة الّتي لا تسمن ولا تغني من جوع.
تناطح، تلاسن، ومنسوب من العنف اللفظي والشتائم واحتراب ونزعات اقصاء واصطفاف وتقسيم وتخوين.
كم من بيان أو لائحة صدر سابقا وقيمته لا ترتقي الى مستوى الحبر الّذي كتب به لتتحوّل الى مجرّد ورقة لا تصلح إلّا لمسح البلّور، فما الّذي جعل الأطراف الًتي تبنّته تعتبره مصيريا كقضيّة حياة أو موت؟
وما الذي دفع بعض القنوات الإماراتية و السعودية كالحدث و العربية و سكاي نيوز تنقل مباشرة نقاش جلسة برلمانية و هي الّتي لا تؤمن بحرّية فكر أو نقاش أو حراك أو مواطنة؟
عنوان اللّائحة كان جميلا و دعوة الى عدم الاصطفاف فيما يجري في ليبيا بينما محتواه برغم تعديله كان مفخّخا و مخادعا و دعوة للاصطفاف متبنّيا موقف الجامعة العربية (جانفي2020) الميّتة سريريا و المختطفة و الّتي تكتب قراراتها في أقبية المخابرات المصرية و في غرف الامارات المظلمة، و تمرير تلك اللّائحة الّتي عدّلها دكتور البراميل المتفجّرة كان سيحسب انتصارا معنويا للثّورة المضادّة و محور الشرّ يبحث عن انتصارات وهميّة ليجبر بعضا من هزائمه على أرض الواقع خصوصا في ليبيا منذ تحرير الوطية الى تطهير مطار طرابلس العالمي.
كانت استماتة البعير والمعيز و "التيّاسة" واضحة وقد بذلوا ما في وسعهم ولم يبخلوا بقطرة عرق لأجل ارضاء الكفيل المشغّل و "تحليلا" لرزقهم، وقد كان "جهادهم" موثّقا وينقل على المباشر، فكلّ حركة وهمسة وشتيمة من فرقة الردح وخصوصا من قائدة الجوقة كانت تمرّر على يافطة اخبارهم العاجلة.
لم يكن الغنّوشي هذا الرّجل الثمانيني الّذي ابهرنا بثباته الانفعالي والّذي قد نتّفق معه في نقاط كما نختلف معه في أخرى هو المستهدف في شخصه بالاغتيال المعنوي فقط بل كلّ التجربة التّونسية الفتيّة الّتي تؤرقهم وتقضّ مضاجعهم ويحاولون المرّة تلو الاخرى افشالها واجهاضها باعتبارها خطرا وجوديا يهّدد عروشهم.
تصوّروا أنّ من لا يدخلون بيوت الخلاء لقضاء حوائجهم الّا بعد مشورة وليّ الأمر ومن يصدرون احكاما بالإعدام في حقّ من لم يظهروا له بما يكفي مظاهر الولاء والطّاعة، صارت تهمّهم البرلمانات والنّقاشات والحراك والاحتجاجات والاعتصامات؟
لا أدري ما دخلهم في شؤون لا يفقهونها ولا يحيطون بها علما مع أنّ لا أحد تدخّل في اختيارهم لوزير خارجيتهم عبد الله بن زايد كأجمل رجل في العالم للسّنة الرّابعة على التّوالي ولم يناقشهم أحد في اعتبارهم "خزامى" أجمل ناقة على الاطلاق الى درجة تحنيطها بعد نفوقها؟
لم تمر اللّائحة ولعلّ أهمّ مابقي من ساعات تلك الجلسة العاصفة، زيادة على قدرة الشّيخ الغنّوشي على المراوغة وتلقّي اللّكمات ونذالة وخسّة ودناءة الضّباع المهاجمة، تلك الكلمات الّتي وردت في مداخلة الاستاذ سمير ديلو والّتي ختمها بأن ليس لكم رصيد...حاولوا مرّة أخرى.
وأكيد أنّهم سيعيدون الكرّة والمحاولة بعد غزوة برلمان فاشلة سبقتها غزوة باردو المضحكة في انتظار أن يفرغوا ما في جعبتهم من هراء وهواء.
ما حدث بالأمس لم يكن انتصارا جليّا بالضربة القاضية، فالمعركة ما تزال طويلة وعدم السّقوط في معجم المقاومة يعتبر انتصارا لاستكمال المواجهة.
تعرّت بالأمس وجوها هي في الأصل مكشوفة وشروط النصر في أيّة معركة أن لا تترك ظهرك معرّضا لطعنات الغدر المتوقّع ممّن جبل عليه و صار من طبعه.
المعركة مازالت متواصلة ولا أحد بإمكانه أن يعيدنا الى مربّع الاستبداد أو ان يدخلنا مجدّدا في اسطبل الدّواب مهما كان مكرهم ولو أنّ مكرهم لتزول منه الجبال.