شهد يوم 3 يونيو/حزيران وليلة الرابع منه جلسة برلمانية عاصفة انتهت بموقف لا منتصر ولا مهزوم ولكن الاصطفاف حول موضوع الجلسة أنتج فُرقة إضافية داخل الحزام السياسي المؤلف للحكومة، وكشف عن عمق الصراع البرلماني، إذ إن تركيبة الأحزاب المكونة للحكومة غير متجانسة منذ البداية وقد أجل الوباء المتفشي ظهور خلافات حادة بين مكوناتها.
لكن مع بدء انقشاع الكارثة الصحية انفجرت الخلافات المؤجلة فكانت ليلة سكاكين طويلة ونتوقع أن ضعف التجانس السياسي سينتهي بتعديل عميق للحكومة ولكن صمودها بعد التعديل سيكون معجزة. النقاش الاستئصالي الذي سمعناه قبل يومين مازال يراوح في منطق بن علي سنة 1990. لذلك نعود إلى تعديل سقوف الأمل نحو التواضع، ولا أمل في إغماد السكاكين.
خرج الغنوشي سالمًا
أفلح رئيس البرلمان ورئيس حزب النهضة راشد الغنوشي في الخروج سالمًا من محاولة حشره في زاوية الخيانة الوطنية، فقد كانت المناورة السياسية تستهدف شخصه وحزبه ومكانته ودوره واتهامه بخدمة أجندات دولية معادية لتونس وتثبيت تلك التهم، ثم المرور لاحقًا إلى مسار عزل برلماني قانوني، ثم محاكمة سياسية تنتهي بحل الحزب ومحاكمة قياداته على طريقة بن علي، وهي الأمنية الغالية على كثيرين تجمعوا ليلة 4 يونيو/حزيران وراء عبير موسي وصوتوا على لائحتها.
احتفل أنصار حزب النهضة بانتصار شيخهم وانتقموا في منصة فيسبوك فقط من هزيمة أعدائهم، فلم يروا الكتلة النيابية التي تجمعت ضدهم وهي كتلة تنذر ببقاء الأوضاع السياسية على ما هي عليه منذ بدء حروب الاستئصال السياسي وأن كل ما مضى من توهم الاندماج السياسي لا يزال وهمًا. لقد صار طموح الحزب ونوابه إنقاذ رئيسه من الإهانة السياسية التي تستهدف شخصه.
سيقول البعض من الناصحين بالمجان، لو لم يترشح للمجلس ولو لم يتقدم لرئاسته لما تعرض للإهانة وهذا القول هو أكبر عنوان للاستئصال السياسي الكامن والظاهر لأنه يستطبن منطقًا منحرفًا، فالأصل أن الترشح حق يتجاوز الأشخاص وأن حظوة المنصب حق مكفول بنتائج الانتخاب. أي قيادي من حزب النهضة كان سيتعرض لمثل ما تعرض له رئيس الحزب، ما دام الهدف واحدًا ومطلق النار واحدًا.
هل تأجيل الهزيمة يسمى انتصارًا؟ في الساحة السياسية التونسية كل نجاة من عملية استئصال سياسي على طريقة بن علي هي نجاة من عملية اغتيال بالرصاص إنها تأجيل الموت وفسح مجال للمناورة وحفظ حق البقاء وترسيخه، وربما لهذا يحق لأنصار الحزب الاحتفال، فقد نجوا من محاولة اغتيال.
تفكك حزام حكومة الفخفاخ
نتوقع، وبكثير من الأسف، أن معركة ليلة الرابع من يونيو/حزيران ستنعكس سلبًا على تماسك حكومة السيد إلياس الفخفاخ، وسينعكس ذلك على أدائها أولًا بما يعطل كل برنامج الخروج من آثار الكورونا، وهذا الفشل العملي سينتهي بزوالها في تعديل لا نراه بعيدًا.
حزبان من ضمن أربعة تكوّن الحكومة يتهمان شريكهما بالخيانة الوطنية أي أنهم عمليًا وقانونًا وأخلاقيًا يجلسون مع خونة في حكومة واحدة، ولا نرى كيف يمكنهما البقاء معه في حكومة واحدة. لقد انعدمت أسباب التعاون وسقطت بكل الوجوه هما حزب حركة الشعب القومية وحزب تحيا تونس اللذين صوتا نصرة للائحة تخوين الغنوشي.
لقد وجد الحزبان نفسيهما في صف عبير موسى وريثة التجمع واشتغلا معها في العمق رغم التظاهر بخلاف ذلك. النائبة عبير ترى منذ البداية أن الإسلاميين (وتسميهم الإخوان) خونة لذلك فهي منسجمة مع طرحها السياسي فلا تشاركهم الحكم بينما يشترك معها الحزبان في تخوين الإسلاميين ويشتركان مع نفس الإسلاميين الخونة في الحكومة، وداخل هذه التناقضات يتحدد مصير حكومة الفخفاخ، فهذا القدر من التنافر منذر بسقوطها ولو بعد حين، إلا إذا كانت ليلة الرابع من يونيو/حزيران مسرحية متقنة على ركح برلمان بلا قيمة أخلاقية.
لم يكن الأمر خلافًا حول نص قانوني إجرائي يتعلق بمسألة قابلة للخلاف وهي خلافات تقع كل يوم في كل برلمانات العالم وإنما كانت معركة تتعلق بالسيادة الوطنية والأخلاق السياسية الجامعة لشعب ولنخبة وأحزاب تلتقي في برلمان وتشترك في حكومة، وكلها تعاني أزمات قديمة ضاعفتها آثار الوباء.
هل يمكن بناء ميثاق سياسي جديد للمستقبل؟
ما كان للخلافات الحالية أن تظهر وتحكم الصراع البيني لو توفر الوازع الوطني بنفس القدر لدى جميع فرقاء السياسة، ولكن أجواء 4 يونيو/حزيران ذكّرت بالخلافات الأصلية أثناء تشكيل حكومة الجملي وسقوطها، فأسباب سقوطها هي نفس أسباب محاولة حشر الغنوشي وحزبه في زاوية الخيانة الوطنية.
بات واضحًا أن مكونات المشهد السياسي الحزبي خاصة المكونة للحكومة القائمة لن تتلاءم حول حدود دنيا لإدارة البلد في أجواء أزمة اقتصادية واجتماعية بلا موارد فعلية، فلا تزال معركة الاستئصال السياسي للإسلاميين هي المتحكمة بكل عناصر المشهد، ولذلك تظل هي أداة التحليل والقراءة برغم ما نحاول توهمه من عناصر تفاؤل، فكلما قلنا خلصنا وتقدمنا انكشفت لنا السكاكين الطويلة.
ما جدوى الحديث عن ميثاق وطني جديد (الكلمة مشحونة بتجربة ميثاق بن علي الذي أمضاه الجميع وخانه منذ بداية عهده). هناك معارك سياسية قادمة أشد وعورة من العلاقة مع ما يجري في ليبيا.
احتمال تدخل أمريكي عسكري في تونس عبر الأفريكوم يهدد كل المشهد، كما أن إعادة التفاوض حول اتفاق الاليكا قادم لا محالة، فضلا عن حلول باتت غر قابلة للتأجيل في إدارة ملف الطاقة والمناجم حيث سيظهر للعيان دور النقابة وأحلافها داخل الحكومة، وقبل هذا وبعده تتراكم ملفات الفساد وتمس بعض مكونات الحكومة (حزب تحيا تونس/ يوسف الشاهد).
ولا نرى أن هذه الملفات ستعالج خارج منطق الاستئصال فكلما اتخذ حزب النهضة موقفًا سنجد الآخرين ضده ونظل ندور في نفس الحلقة المفرغة حيثما تغيب المصلحة الوطنية وتحضر المعركة السياسية.
معركة السكاكين الطويلة ستضع تعديل القانون الانتخابي في مقدمة أولويات حزب النهضة لكي يحاول الدفع إلى إعادة الانتخابات على أمل العودة إلى البرلمان بكتلة أكبر وهو من أحلام الحزب المستحيلة لأنه حلم سيصدم بمكون آخر لديه أجندة مختلفة هو الرئيس الذي لديه مشروع تعديل مختلف يمس النظام السياسي برمته، وسيتسع الخلاف البرلماني أكثر من اتساع الفرقة في مكونات الحكومة وندخل حالة الانسداد المنذرة بانهيار شامل.
سكاكين ليلة الرابع من يونيو/حزيران الطويلة انغرست في جسد تونس الهش بأثر الكورونا وبنصف قرن من الفساد السياسي والاقتصادي.