أمام تهديدات أثيوبيا المتعدّدة بالبدء في ملء خزّان سدّ النّهضة بغضّ النّظر عن الموقف المصري و دون مراعاة لتحفّظات مصر أو للأعراف الدبلوماسية في مشهد إذلال صارخ و اهانة صريحة لها، كان الجميع ينتظر ردّا مناسبا يلجم الصّلف و التعنّت الأثيوبي و يعيد إليها بعضا من هيبتها المستباحة و يضع حدّا لتهديد وجودي حقيقي يتشكّل و صار مرأى العين،فإذا بالرّئيس المصري عبد الفتّاح السّيسي يخرج علينا في استعراض للقوّة في مرسى مطروح القريبة من الحدود اللّيبية و هو يزمجر و يزبد و يرعد ليهدّد جارته ليبيا و يرسم الخطوط الحمراء و يلوّح بالتدخّل العسكري المباشر في انتهاك صارخ لسيادتها و تدخّل فجّ و سافر يرقى إلى مستوى إعلان حرب.
فما الّذي يجعل السّيسي يتجاهل خطرا حقيقيا يمسّ مصر ووجودها ليختلق خطرا مفترضا يتعلّق بحدودها؟ هل هو الحول الاستراتيجي أم انتحار المنطق؟ وهل تراها تهديدات حقيقية قابلة للتنفيذ أم مجرّد ظاهرة صوتية وفرقعة إعلامية للتّغطية عن أزمات حقيقية تعيشها مصر؟ سدّ النهضة و الخطر الوجودي الحقيقي: لا يمكن لعاقل أن يتخيّل مصر بدون نيلها فهو كما الرّوح في الجسد، فكيف نتصوّر أنّ مصر دخلت أو ستدخل مرحلة العطش المائي الّتي ستزداد وضوحا مع بدء أثيوبيا في تعبئة خزّان سدّ النّهضة وما الّذي حصل حتّى تحدث كارثة بمثل هذا الحجم تعصف بحاضر مصر و مستقبلها؟
من المعلوم أنّ حصّة مصر في مياه النّيل المقدّرة ب 55.5 مليار متر مكعّب لا تكفيها حاليا وستزداد احتياجاتها في السّنوات القادمة لتبلغ76.5 مليار متر مكعّب مع حلول سنة2050، تمكّنت مصر منذ معاهدة 1902 من المحافظة على حصّتها لتجعل من مجرّد مناقشة الموضوع خطّا أحمرا لتجد نفسها تفاوض وتستجدي نصف احتياجاتها الّتي قد لا تحصل عليها.
مشروع سدّ النّهضة الّذي وضع حجر أساسه في 2 ابريل 2011 حينما كان المجلس العسكري يدير شؤون مصر و منهمك في وأد ثورة 25 يناير، و كان يسمّى سدّ الألفية الكبير ليتغيّر اسمه بفضل دبلوماسية شعبية قادها بعض المصريين نكاية في الرّئيس الشّهيد محّمد مرسي الّذي كان موقفه من بناء السدّ حازما و قاطعا فهو من أعلنها عاليا بأن لو نقصت قطرة من مياه النّيل فدماءنا هي البديل،لتستغلّ أثيوبيا الانقلاب العسكري على أوّل رئيس مصري مدني منتخب ولهفة السّيسي لشرعيّة يلهث وراءها فتسرع في تشييده بل و تنجح في أن تنتزع من السيسي صكّا على بياض في 23 آذار2015منحها حرّية المناورة بتضمين وثيقة اتّفاقية المبادئ مبدأ الضّرر البالغ عوض اليسير ممّا يفتح باب التّأويل و التّباين في تقدير الضّرر،زيادة على حرمان مصر من إمكانيّة الالتجاء إلى التحكيم الدّولي.
تعاملت السّلطات المصرية مع ملفّ سدّ النّهضة بتهاون شديد وكأنّه لا يعنيها وربّما لو كان الأمر يتعلّق بمشكلة كروية لكان التّعامل أكثر جدّية، أحرقت خلال مفاوضاتها العبثية كلّ أوراقها وسلّمت ناصيتها لأثيوبيا لتقرّر ما تشاء.
فسدّ النّهضة الّذي أنشئ بأموال سعودية و إماراتية و بمساهمة من بنوك مصرية و قريبا سيبدؤون في ملء خزّانه إن لم يُبتدأ ذلك فعلا، سيكون كارثيا على مصر بكلّ المقاييس،فيكفي أن نعلم أنّ خسارة 12 مليار متر مكعّب تعني تحويل 2.4مليون إلى أراض بور وخسارة ثلاثة أرباع من أحواض تربية الأسماك و20 في المائة من قدرة مصر على توليد الكهرباء،وباكتمال ملئه سيرشف نصف كمّية مياه بحيرة ناصر و سيجعل ملايين المصريين يعطشون و يفقدون مصادر رزقهم.
تبلغ سعة سدّ النّهضة74 مليار متر مكعّب وهو قادر على توليد 3 أضعاف ما تنتجه مصر من الكهرباء وما لا يتحدّث عنه هو أنّ لأثيوبيا مشاريع سدود أخرى قيد الدّرس والإنشاء بسعة 200 مليار متر مكعّب لتتجاوز المسألة بعدها التنموي إلى محاولة حقيقية لخنق مصر واغتيالها مع سبق الإصرار والترصّد.
وأمام هذا الخطر الوجودي الحقيقي الدّاهم لم ينجح السيسي سوى في أن يجعل رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد يقسم ثلاث مرّات بأن لا يضرّ بمصالح مصر في النّيل في يونيو2018 ليحنث بعدها دون أن يصوم ثلاثة أيّام أو يطعم ستّين مسكينا! في سبتمبر2019 أعلن الجانب المصري عن فشل المفاوضات ليطلب وساطة دولية فشلت هي الأخرى لتعلن السّلطات الأثيوبية أنّها ستمضي قدما في مشروعها وستبدأ قريبا قريبا في ملء السدّ بغضّ النّظر عن موقف مصر الممانع وهو في الحقيقة متواطئ كمن يماطل لأجل أن يسمح لها بالوقت الكافي لإتمام فعلها الموحش.
فقدت مصر فرصها التفاوضية الّتي خاضتها بتهاون مكشوف بل بتواطئ مفضوح وهي أبعد ما يكون عن حلّ عسكري استحال مع غياب الإرادة وفقدان أسبقية المفاجأة وفقدان جيش مصر لعقيدته بعد أن غيّرت وجهته نحو ما لم يؤسّس لأجله.
ومعضلة سدّ النّهضة تبدو ثانوية أمام ما يهمّ السّيسي، كرسيه ومطاردة معارضيه وأمن "إسرائيل" الّتي يفاوض لأجلها السيسي من أجل إرواء ظمئها و هو الّذي اختلق مشروع تفريعة قناة السويس للتغطية على الأنابيب العملاقة الّتي تضمن لها حصّتها في مياه النّيل. الحدود اللّيبية والخطرالمفترض الوهمي: تجلد أثيوبيا السّيسي وتمعن في إذلاله لتتجاوز مرحلة تهديد الأمن القومي المصري إلى درجة الخطر الوجودي فيكتفي بمخاطبتها بدبلوماسية سمجة تثير القرف ثمّ ينحني ليلتفت غربا نحو ليبيا في عمليّة تحويل مفضوحة وانقلاب للمنطق على رأسه.
ما الّذي فعلته ليبيا والشّعب اللّيبي سوى أنّه ثار على طاغية وتطلّع للحرّية والكرامة وسعى لبناء دولة مدنية ديمقراطية يسودها القانون؟ من كان المسؤول عن تسع سنوات من الفوضى والدّمار وأنهار من الدّماء والحيلولة دون الاستقرار والأمن وبثّ الفتنة وتعطيل كلّ بوادر لانفراج الأزمة عبر توافق أو حلول سلمية؟ من عطّل مخرجات اتّفاق الصّخيرات ومن موّل ودعم الانقلابي حفتر حتّى كان قاب قوسين أو أدنى من الدّخول عنوة لطرابلس لولا التدخّل التركي في آخر لحظة؟ من أدخل داعش لسرت ومن دحرها منها؟
من أين يتدفّق السّلاح
من أين يتدفّق السّلاح ومن أين تقلع الطّائرات لتقصف المدنيين الأبرياء وأين تحاك المؤامرات؟ لا يشكّ عاقل في أنّ الخطر بالنّسبة لليبيا كان مصدره شرقها و نظام السّيسي الانقلابي كوكيل يشتغل مناصفة لحسابه الخاصّ و لحساب كفيله الّذي يدفع. يقول العقيد الطيّار محمّد قنونو المتحدّث باسم الجيش الليبي: "تحيط بنا سبع دول جارة،لم تشكّل ليبيا خطرا على أيّ منها ،و لم نشكّل تهديدا على أمن أحد و حتّى الإرهاب جاءنا و لم نصدّره،فعلى من يرانا نشكّل تهديدا له و لو غذائيا أو مائيا أن يغلق حدوده و يمسك عنّا سلاحه و مدرّعاته و طائراته و مرتزقته و لسانه".
قد يبدو السّيسي أذكى من أن يتورّط في ليبيا بشكل مباشر و أكثر وضوحا لأسباب عدّة أهمّها خوفه من أن ينقلب جيشه عليه و هو الّذي يخاف حتّى من ظلّه والأزمة الاقتصادية الحادّة الّتي عمّقتها جائحة كورونا و لن تنعشها ما سيدرّه البعض من مال و هم أيضا يعيشون تبعات الجائحة و سوء تصرّفهم، و ربّما قد يقوم ببعض الاستعراضات على الحدود ليضمن ما يحلبه من مشغّليه و إرضاء لفرنسا و اليونان و"إسرائيل"،لكن بعض الحروب تبتدئ بمزحة و تتحوّل إلى ورطة.
كلّ المؤشّرات تؤكّد أنّ النّظام المصري الانقلابي يواجه أزمات متعدّدة أهمّها ورطة سدّ النّهضة الأثيوبي وتدهور الوضع الاقتصادي الّذي تعمّق بارتدادات جائحة كورونا وانقسام الجبهة الدّاخلية وسط انغلاق سياسي تامّ وهو ما يجعل قرع طبول الحرب من قبل السيسي هو من قبيل التهريج والفرقعة الإعلامية ومحاولة لتصدير أزمته الدّاخلية وعملية تحويل والهاء عن المشاكل الحقيقية.
وقد لوحظ أنّ بعض الطّائرات الّتي استعملها السيسي للاستعراض في مرسى مطروح قد عادت من حيث أتت كما أنّه سحب بعض العناصر من الجيش المصري من داخل مدينة سرت بعد أن ابتدأ قصفها من جديد من قبل قوّات حكومة الوفاق الشرعية وبعد اجتماع السراج ووزير الداخلية الليبي بقائد افريكوم وسفير الولايات المتحدة الامريكية بليبيا. لكنّ تركيبة السيسي المعقّدة كطاغية سايكوباثي له هوس مرضي بالسلطة والمال قد يجعله يغامر ويتورّط في رمال ليبيا المتحرّكة فسد النهضة يهدًد مصر والشعب المصري وذلك ليس من اختصاص واهتمامات السيسي وزمرته، بينما ليبيا بتجربتها الديمقراطية الوليدة والواعدة وما قد تحقّقه من نهضة شاملة تمثّل خطرا على كرسيه إلى جانب طمعه في نفطها وثرواتها.
يحكى عن سلطان مصر قانصوه الغوري الّذي نّصّب بعد انقلاب على العادل طومان باي، أنّه كان يتظاهر بأنّه زاهد في الملك ليتخلّص من خصومه بعد تمكّنه، ثمّ أجحف في فرض الضّرائب وخفض الأجور وطغى في الأرض حتّى ضجّ أهل مصر والشّام لينتهي صريعا تحت سنابك خيل جيش سليم الأوّل العثماني في معركة مرج دابق سنة 1516. "التاريخ لا يعيد نفسه لكنّ الإنسان يكرّر غباءه"