لقد بات واضحا الآن ماذا يريد الرئيس قيس سعيد، بالاستناد على عكاز الشعبوية: "الشعب يريد". فقد أعلن في خطاب تكليف رئيس الحكومة الجديد المشيشي، أنه آن الأوان لمراجعة الشرعية حتى "تكون تعبيرا صادقا وكاملا عن إرادة الأغلبية". ويقصد بذلك كما هو واضح " إرادة الذين صوتوا له في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية"، أي المليونان وسبعمائة ألف ناخب.
هنا أودّ مناقشة هذا الزعم بكل عقلانية. وذلك من خلال نقطتين :
: 1- مضمون العقد الاجتماعي- السياسي الذي صوت الشعب على أساسه لقيس سعيد رئيسا للجمهورية.
2- الظرف السياسي الذي صوتت فيه غالبية الشعب لسعيّد. أولا: على أي مهام صوّت الشعب لقيس سعيد؟
هذه المهام هي التي تخولها له الصلوحيات التي مكنه الدستور منها ضمن نظام برلماني معدّل. وهي غير مهام رئيس دولة في نظام رئاسي. بينما ما نشاهده اليوم في تصرفات قيس سعيد هي مهام رئيس دولة في نظام رئاسي، يتحول فيه رئيس الحكومة إلى وزير أوّل لدى الرئيس (انظر مقابلاته خلال الأسبوع الماضي مع وزير أملاك الدولة، ومع وزير الصحة بالنيابة...، وانظر رميه في سلة المهملات بترشيحات الأحزاب كلها، حتى تلك التي حققت إجماعا واسعا، بغض النظر عن مدى جدارته، فهو يعكس على كل حال إرادة الشعب الذي انتخب النهضة وقلب تونس في المرتبتين الأولى والثانية).
ولا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل اختيار الرئيس لوزيره الأول من بين شبكة معارفه القديمة المحدودة بالدائرة القانونية المهنية، وحرصه على معيار الولاء الحصري له، مهما عبّر هذا الولاء عن تبنّ لاختيارات الرئيس السياسية والاجتماعية، فهذا مما يطول الحديث فيه. خلاصة هذا العنصر أن الرئيس قيس سعيد يطبق الآن مقاربة شكلانية للدستور ويتجاهل روحه ومقاصده وفلسفته الأساسية التي تقف ضد أي نزوع استبدادي، وهو يعطل عمليا آلية جعل السلطة التنفيذية برأسين، لكل رأس منها مهام وصلوحيات حددها الدستور بحيث يمنع الانزلاق نحو الاستبداد من جديد.
في مقابل ذلك، صوّت الشعب لمكونات البرلمان على أساس انتظار أداء مهام وإنجازات مكنهم منها الدستور قانونيا. ويكون ذلك انطلاقا من تشكيل الحكومة التي تقود برنامج تحقيق انتظارات الشعب واستحقاقات الثورة الاجتماعية. ثانيا: من هم الذين صوتوا لقيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية؟ ما هي تركيبتهم السوسيو- سياسية؟ هل هم من أنصار قيس سعيد ومن متبني برنامجه المناهض للنظام السياسي البرلماني المعدل؟ أبدا.
إن أكثر من مليوني شخص قد صوتوا لقيس سعيد، وهم لذلك كارهون، لأن خيارهم الأول كان لعبد الفتاح مورو، ولسيف الدين مخلوف، وللمرايحي وللمرزوقي وغيرهم. إنهم صوتوا له بما يعرف بالتصويت المفيد، لسدّ الطريق أمام وصول منافسه نبيل القروي لسدة الحكم بقرطاج. وهم الآن جميعا أو أغلبهم على الأقل يعبرون عن ندمهم الشديد على ذلك التصويت، بسبب سلوكات الرئيس وخطاباته وأسلوبه في الحكم وعلاقته بالبرلمان وشركائه السياسيين.
وحتى الستمائة ألف ناخب الذين صوتوا له في الدور الأول ليس من المؤكد أنهم لا زالوا معه إلى الآن. ولذا من الخطإ القول بأن ما يفعله قيس سعيد الآن هو تجسيد كامل وصادق لإرادة الأغلبية. لكل هذا أرى أن اجتهاد الرئيس اجتهاد خاطئ ولم يأت ثمرة حوار وطني، وان الغائب الأكبر هو الحوار، والحاضر الأكبر هو المغالبة، بلا أي عمق سياسي، حقيقي، بل بتطبيق قانوني شكلاني جاف للدستور (حديد يحك في حديد)، وهذا أمر خطير جدا على الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويمكن أن يكون مقدمة خطيرة لتهارج أهلي وحوادث عنف ناسفة للسلم الأهلي وللتجربة الديمقراطية.
ولذا، لا بدّ من الضغط السلمي الديمقراطي عبر بناء جبهة وطنية للدفاع عن الدستور وعن الشرعية وعن الديمقراطية، وأن يكون الإعلام النزيه حليفا فيها، مع ضرورة وعي الأحزاب بأنها قد خيبت آمال التونسيين، وان من هذه الثغرة قد تسللت الشعبوية ويتهدد النظام الديمقراطي في البلاد، وأن عليها الكف عن تهارجها العبثي، فقد استنزفت كل رصيد مناوراتها السياسية لتسجيل نقاط على بعضها البعض، وأن تضع اليد في اليد حتى لا تغرق السفينة التي خُرقت، بالجميع.
كلمة أخيرة عن دور اتحاد الشغل في هذه "المعمعة". واضح أن الرئيس يعمل جاهدا على تحييد الاتحاد، أكبر قوة اجتماعية ضاغطة في البلاد، بل يعمل على جعله في صفه ووضعه في خدمة أجندته عبر المدخل النقدي الاجتماعي. هنا نرجو أن يكون الاتحاد بمنأى عن كل هذه الحسابات، وأن يبقى منضويا تحت حكم الدستور ونظام الحكم الذي أقره، مع مواصلة أداء مهامه النضالية الاجتماعية المشروعة بكل مسؤولية.