نكاية في بعضها تنبطح أحزاب سياسية إلى رئيس الدولة، وهي توحي لنا بأنه يطبّق سياساتها أو يحقق أهدافها أو تتوهم أنه يتبنى استراتيجياتها أو يسير بمقتضى تكتيكاتها، ضد بعضها. وأنه فاعل ما لا تستطيع أن تفعله هي في بعضها.
وفي سبيل ذلك، تتراجع عن برامجها لا يهم، تتخلى عن مبادئها وما المانع عندها، تنسى وعودها أو مواقفها، عادي. المهم ما تتوهم أن الرئيس فاعله.
قال قيس سعيد في جوان 2019 بأن "عصر الأحزاب قد انتهی في كل العالم". صحيح أن هذا الكلام لا يصح تطبيقه إلا في ليبيا حيث كان يرفع شعار "من تحزب خان" وذهب مع قائله، وكذا في بلدان الخليج العربي التي لم تعرف في الأصل الظاهرة الحزبية ولا يمكن اعتبارها نماذج في السياسة، ولكن المعنى الواضح عند قيس سعيد هو معارضته للأحزاب، ولا يمكن بأي تأويل من التأويلات لكلامه، أن نلمح تمييزا بينها، أحزاب مقبولة وأخرى مقصية، فكلها عنده أحزاب، ولكن المهم عند بعضها أن يبدأ بالنيل من بعضها الآخر، ثم لكل حادثة حديث، أو هكذا تفكر.
قيادات هذه الأحزاب هي التجسيم الفعلي لتعاستها.
في السياسة..
عادة هناك من يقوم بدور السفيه أو -للتلطيف- دور المجنون، وهناك من يقوم بدور العاقل. وسواء كان ذلك في إطار تقاسم أدوار أو أن الأمر متروك لكل شخص وإمكاناته وقدراته، إلا أن هذا ما يقع في الساحة السياسية في كل بلاد الدنيا. وعادة ما يكون السفهاء أو المجانين هم من يهيئ الأوضاع للعقلاء حتى يتدخلوا ويعدلوا الساعات، ومن هناك ترتسم التوجهات التي يباركها الجميع في آخر المشهد، ويكتسب العقلاء من ذلك قيمة أعلى، ويصبحون زعماء أو حكماء، بحيث يصعدون على حساب أصحابهم من السفهاء.
لكن الساحة في تونس تعج -مع الأسف- بالصنف الأول، البعض منهم يقوم بأدوارهم عن قناعة، والبعض عن بلادة ذهنية أو غباء، والبعض مطلوب منهم ذلك، والبعض لا يدرون موقعهم أو لا يعرفون أنهم سفهاء. وجميعهم لا يهمهم إلى أين يمكن أن تتجه الأمور سواء لأنفسهم أو للجميع، ولا يهمهم حتى مستقبلهم هم، لأن أكبر الخاسرين عادة هم السفهاء.
بعض المواقع تنحو بأصحابها إلى أن يكونوا عقلاء. كأن يكون رئيس حزب مثلا، أو رئيس سلطة أو رئيس هيئة. إلا أن المشكل هو أنه لا يوجد بين هؤلاء عاقل واحد. كلهم من الصنف الآخر ومن نوع العال، مع الأسف.
المخازنية الجدد..
تقدر النسبة الثابتة للذين يصوتون للسلطة، أيا كانت، وفي أي بلد كان، بحوالي 8%، هؤلاء يصوتون لها ليس لبرامجها أو إنجازاتها، وإنما فقط لأنها سلطة تحكم. وعندما يتغير من يحكم، يتجه هؤلاء إلى من يخلفه، وليس من الغريب أن يعبر عن ذلك المثل التونسي "الله ينصر من صبح" والمثل الفرنسي في نفس المعنى "Le roi est mort, vive le roi!".
وتجد هذه الظاهرة جذورها في ما كان يسمى عندنا في تونس بالمخزن، حيث كانت هناك فئات حضرية وقبائل كاملة مؤيدة للحاكم، تناصره مهما كان موقفه، ومهما كانت سياسته، وتكون على استعداد للحاق بعسكره لقمع القبائل والجهات الثائرة.
المخازنية هم اليوم أولئك الذين لهم ثقة مطلقة في قيس سعيد أو في أي حزب حاكم، يناصرونه بدون قيد أو شرط، وبلا معرفة بما سيفعل أو بما سيصدر عنه، بل هم يعبرون عن أنهم يساندون المواقف التي سيتخذها، ليس فقط دون أن يستشيرهم، ولكن حتى دون إعلامهم بها. المخزن عقلية، وهؤلاء مخازنية جدد.