1- الأصل أن تكون الأحزاب ونتائج الانتخابات التشريعيّة وطبيعة النظام السياسي والدستور هي المرجع الأوّل في تشكيل الحكومة القادمة. وفي هذا احترام لإرادة الناخب والاختيار الشعبي الحر. فإذا تقدّم ائتلاف برلماني يضمن للحكومة منح الثقة في البرلمان، فعلى رئيس الحكومة المكلّف أن يستجيب لهذا التوجّه احتراما للدستور والديمقراطيّة والنظام السياسي.
فمن غير المعقول أن يتمّ تجاهل مثل هذه المبادرات إذا حصلت من ائتلافات برلمانية من هذه الجهة أو تلك. ولا يمكن أن يُفهم هذا التجاهل إلاّ على أنّه تنكّر لنتائج الانتخابات وتجاهل للأحزاب ودورها في الحياة الديمقراطيّة، واتّجاه إلى تشكيل حكومة من شخصيّات لا رصيد لها في البرلمان.
2 - تشكيل حكومة من خارج الأحزاب والتوازنات البرلمانية لا يمكن أن يكون على صلة بالديمقراطيّة إلاّ إذا كان ضمن إجماع سياسي واسع على حكومة إنقاذ أو حكومة وحدة وطنية تستدعيه المرحلة ويكون نتيجة مشاورات واسعة بين الأحزاب والمنظمات والشخصيات الوطنيّة والفكرية والعلمية.
ولكن "اختطاف العهدة" من قبل رئيس الجمهوريّة كان بداية سيّئة ومؤشرا على استبداده بتشكيل الحكومة بتكليف رئيس حكومة مرتهن له. وفي ذلك خروج عن صريح الدستور، فليس من مهام رئيس الجمهوريّة تشكيل الحكومات وتعيين الوزراء.
وأيّا كان عنوان الحكومة المشكّلة (كفاءات، وحدة وطنية، تكنوقراط) فإنّها لن تكون إلاّ جولة في معركة رئيس الجمهوريّة مع الدستور والنظام السياسي ومؤسسته الأصليّة مجلس نواب الشعب.
وهي معركة تجتهد في الإيهام بأنّ المعني بها حزب أو ائتلاف بعينه. وهي في حقيقتها استهداف للمنظومة الحزبيّة والحياة الحزبيّة أساس الديمقراطيّة.
وتنخرط في هذه التوجّه أحزاب ديمقراطيّة تتجاهل التمييز بين الصراع الديمقراطي واستهداف شروط الديمقراطيّة. فتسكت عن استهداف المسار وتعتبر ذلك وجهة نظر سياسيّة. ولا يزعجها أن تتقاطع مع الشعبوية التي لا تؤمن بالأحزاب ودورها ومع الفاشية التي لا تؤمن بالثورة والديمقراطيّة، لمجرّد أنّهما قد يضعفا هذا المنافس السياسي أو ذاك. لذلك هي لا تتردّد في التوصية الشبيهة بالوشاية باستبعاد من تراه خصمها من الحكومة المنتظرة ضاربة عرض الحائط بنتائج الانتخابات بدعوى أنّه لا فائز فيها.
3 - المشكل ليس في عنوان الحكومة القادمة وإنّما في طريقة تشكيلها وحزامها الحزبي والمنظماتي والشعبي الداعم لها. وكما نجحت الفاشيّة والشعبوية في تزييف حقيقة مناهضة المسار بحصرها في حدود حزبيّة ضيّقة، فإنّها تستدعي الصراع المرير مع الاستبداد بسردية الاستبداد نفسه، وتحفّز قواه وبعض من رموزه هذه الأيّام بإثارات"هووية" و"نمطيّة" بدعاوى حماية الدولة من الغرباء وأولوية الوطن على الأحزاب.
يتمّ كل ذلك في سياق شيطنة للأحزاب والمؤسف أنّ رائدها وصوتها الأقوى جانب من الأحزاب الديمقراطية نفسها.
تشكيل الحكومة بشروط مختطفي العهدة سيدفع إلى مزيد الانحراف بالنظام السياسي ومخالفة صريح الدستور واستهداف الديمقراطيّة. والتشويش على توزيع الصلاحيات وإرباك العلاقة بين المؤسسات التشريعيّة والتنفيذية، وبين المؤسسات التنفيذية نفسها (الرئاسة/الحكومة).
ومن شأن هذا أن يزيد المشهد المتوتّر توتّرا. ويفاقم من التجاذب بين المؤسسات الأولى في الدولة ويضعف ثقة المواطن بها. وكل هذا لا يساعد على تجاوز الأزمة الخانقة ويُنهك المسار الديمقراطي ويؤثّم الثورة.