سأسمح لنفسي بالخروج عن إطار التّحفّظ والإدلاء برأيي في الهيكلة الحكومية الجديدة التي يقترحها سي المشيشي، وتحديداً ما أقدم عليه من اعادة دمج لوزارتي الصناعة والطّاقة.
سأقول بصوت عالٍ ما يقوله في استحياء كلّ موظّفي الوزارة، أو الشركات تحت الاشراف، أو عموم متدخّلي قطاعات الطّاقة والكهرباء والمناجم: علاوة على كونه قراراًخاطئاً، هو خطوة تعكس تخبّطاً مقلقاً في الرّؤى حول تصوّرات الدولة وأولوياتها الاستراتيجية وطرق ادارتها.
لم يكن احداث وزارة للطاقة والمناجم "فكرة" عابرة او ترفاً، بل ضرورة منطقيّة، ومطلباً ملحّاً عبّر عنه كلّ المتدخّلين في هاته القطاعات الحسّاسة.
ربّما يجب أن نذكّر انّه -لو استثنينا المؤسسات البنكيّة- فإنّ أكبر الشركات الوطنيّة، من ناحية أرقام المعاملات، هي شركات الكهرباء STEG، توزيع المحروقات SNDP، الايتاب، معمل التكرير STIR، المجمع الكيميائي التونسي GCT و فسفاط قفصة CPG، وهذا علاوة على اهميتها الاستراتيجية العالية ووزنها التشغيلي الهائل، وكونها الرافعة الاقتصادية الاساسية لعدد من الجهات...!
وإذا نظرنا من مستوى أعلى لعاينّا أن ثلثي عجز الميزان التجاري متأتي من الطاقة، وأنّ النفط والصناعات الفسفاطية تبقى أهمّ موارد العملة الصعبة للبلاد.
منذ مدّة طويلة، يعيش كل من قطاعي الطاقة والمناجم مشاكل هيكلية عميقة اضرّت بها وبانت للعيان مع حالة التراجع المسترسل في مستويات الانتاج او في فشل اغلب المشاريع الجديدة.
بالنسبة لقطاع النفط إذا أردنا ان نأخذه مثالاً، فقد انخفض الانتاج الوطني الى حدّ النّصف في العشرة سنوات الاخيرة، وهجرت -او تستعدّ لذلك- الشركات الكبرى، ما ضرب بقوّة فرص الاستثمار او الاستكشاف. علاوة على حمّى الاعتصامات وقطع الطرق التي أجهزت على واقع ومستقبل القطاع، جاءت إعادة دمج وزارة الطاقة مع وزارة الصناعة مرة أخرى لتدق آخر مسمار في نعش قطاع الطاقة في تونس.
من السذاجة الاعتقاد انه بالتقليص من عدد الوزراء وامتيازاتهم (وأيّما امتيازات!)، نكون قد حققنا انجازاً في الحوكمة او في الضغط على المصاريف. الحوكمة تكون باختيار الأشخاص الأكفاء والمناسبين، وبالجدية في تناول الملفات، وفي التنسيق المحكم بين الإدارات والهياكل، وفي التحكم في البيروقراطية وتعجيل الإنجاز.
منذ ستة أشهر، وصلنا الى وزارة الطاقة لنجدها منكوبة.. أضرّت بها تجربة الالحاق بوزارة الصناعة وزوبعة ملفّ الفساد المزعوم بحقل حلق المنزل، بشكل لا يصدّق.. ولولا انضباط الموظفين والمسؤولين لما استطاع القطاع ان يواصل عمله بحدّ أدنى من المردودية.
في ظرف ستة أشهر، نجح الفريق الوزاري في احداث الوزارة، والتعاطي مع الأزمات المتراكمة، واستباق المشاكل، ووضع خطّة إصلاح هيكلي للوزارة والشركات العائدة بالنظر، أملاً في إنقاذ قطاعات حيوية كالكهرباء او المحروقات او المناجم، ووضعها على طريق الاصلاح والتعافي…
من المفارقات ان تنظيم الوزارة الجديدة صدر بالرائد الرسمي أسبوعاً فقط قبل صدور هيكلة الحكومة الجديدة، والتي بإلغاء وزارة الطاقة والمناجم من جديد، ألقت بكلّ ما بذل من مجهود في القمامة، بل وأعطت انطباعاً صريحاً لكل الفاعلين، انه ومهما اجتهدت وثابرت ورغبت في الاصلاح، تبقى حظوظ الإجهاض أكبر، ويبقى التمشي العامّ راكداً مغرقاً في السلبية ولا يشجّع على البذل او البناء.
مهما كان اسم الوزير، ومهما كانت تركيبة الحكومة، المسالة مبدئية ومرتبطة بالتّصوّر قبل كل شيء. ولا يمكن توصيف ما يحدث بغير "العبث الرسمي". يأتي لينضاف الى "عبث شعبي" يتمثل في موجات الاحتجاج المعطِّلة للإنتاج التي اجتاحت كل القطاعات الحسّاسة بدون استثناء، وامام عجز حكومات أضعفها كونها أدركت انها تجلس على كراسي طائرة قد تقفز بها في اي لحظة.
لا يمكن تصوّر ما يدور في ذهن شركائنا الأجانب وهم يتابعون تطوّر الاحداث، وتداول المسؤولين وتغيّر السياسات. كيف يمكن إقناعهم ان هذا ليس بعبث… كيف نريد منهم ان يتعاطوا معنا بحدّ أدنى من الجدية؟
ويسأل التونسي بعد هذا عن الايادي المرتعشة، وعن ضعف الدّولة، وعن تأخّر إنجاز استراتيجية الطاقة الوطنية… اي عرض قويّ وأي استراتيجية واية مواقف يمكن ان يأخذها وزير لا يبقى في منصبه أكثر من بضعة أشهر…؟
ويبقى السؤال، أين نحن ذاهبون؟ أتمنى فقط ان هناك من يملك الإجابة.