بعض المعاني يمكن الخروج بها من متابعة جانب من مداولات منح الثقة لحكومة المشّيشي حول تطوّر الخطاب السياسي الديمقراطي من جهة دقّته ومرجعيّتة القانونيّة الدستوريّة المتينة، وبروز نخبة من النوّاب بقدرات خطابيّة وتحليليّة محترمة وواعدة، وانخفاض في منسوب للسباب لم يمنع جذريّة النقد وحيويّته.
لكنّ المعنى الأهمّ كان، في تقديري، تعبيرُ الخطاب البرلماني في اتجاهه العام عن "روح المجلس" و"عقل المؤسسة التشريعيّة". ويبرز هذا في تقاطع جلّ المداخلات مختلفة المشارب السياسيّة في الثقافة الديمقراطيّة ومرجعيّة الدستور والاتفاق على تواصل مسار بناء الديمقراطيّة واستكمال مؤسساتها.
على هذا الصعيد ومن منطلق "هذا الروح" "وهذا العقل" كان الردّ على استهداف المؤسسة الأصليّة والدستور ونظام الحكم.
هذا لا ينسينا ما انجرّ/ جُرّ إليه مجلس نوّاب الشعب من مشاحنات، وما طاله من ترذيل وتعطيل في سنته الأولى. كما أنّه لا يعفي النواب مسؤوليّتهم عن كلّ هذا. ولكنّ المعركة الأخيرة التي هدّدت أساس الانتقال الديمقراطي أظهرت قوّة المؤسسة التشريعيّة الكامنة واتجاهها إلى الرسوخ مؤسسةً أصليًّة منها تستمدّ الشرعيّة.
بروز "هذا الروح" وتعبير "هذا العقل" عن نفسه في مداولات منح الثقة خطوةٌ متقدّمة على طريق بناء الديمقراطيّة تفسّر، إلى حدّ كبير، توتّر رئيس الجمهوريّة وهروبه إلى موضوعه الوحيد: المؤامرة والتخوين، رغم عدم تطابق المقال (زعيق التخوين الأجوف) مع المقام ( أداء اليمين الدستوري...يا ربي العمل عليك). ولكنّه هذه المرّة لم يتمكّن من ضبط عدوّ متحيّز، وإن حاول من خلال ردّه على بعض المواقف والتصريحات. لأنّ الذي واجهه في تحدّيه للمنظومة الحزبيّة وخرقه صريح الدستور وخروجه عن مهام رئيس الجمهوريّة هو "هذا الروحّ". والمؤسسة عقل والعقل لا يتحيّز.
النظام السياسي والدستور والبرلمان نصوصٌ وهيئاتٌ قابلة للتنقيح والتحويل والتطوير...ولكن في إطار متفّق عليه قانونيّا ووطنيّا. سيكون بروز "هذا الروح" و"هذا العقل" معطى جديد في صراع الديمقراطيّة والشعبويّة والفاشيّة التي بدت "لابدة" هذه المرّة، وستُوقَظ عند أوّل فرصة. ولكنّ الاتجاه الغالب، رغم العقبات المخيفة والمخاطر المهدّدة، هو استمرار التقدّم في مسار بناء الديمقراطيّة وإن بخَطْوٍ وئيد…
التعليق على تدخلات رئيس الجمهوريّة لم يعد له معنى...وما حديثي عنه إلاّ برغبة في التنبيه على ما أسميناه ببروز "روح المؤسسة التشريعيّة" في جلسة مجلس نواب الشعب لمنح الثقة.
كان مطلوبا من السيّد الفخفاخ
مع الأسف يبرهن إلياس الفخفاخ رئيس الحكومة المستقيلة في خطاب التخلّي عن نفس صغيرة هي دون ثقافة الدولة وأخلاق الديمقراطية وشجاعة الاعتذار.
كان مطلوبا من السيّد الفخفاخ خطابا تقييميّا يشير فيه إلى حقيقة الأزمة وحجم المخاطر ويحذّر من المزالق بتخصيص ما يهدّد منها استمرار الدولة ووحدتها ويختم بسبل المواجهة والثقة في تجاوز الأزمة. ولكنّه اختار خطاب بث الإحباط واليأس من اجتماع شروط النجاح(مندبة). وانتهى بإشارة اضطراريّة موجزة إلى أمل ضعيف. وبتمنٍّ باهت بالنجاح لزميله في الحكومة الجديدة.
لم ينجح الفخفاخ في تجاوز جرح "تضارب المصالح" وما اتّصل بها من "شبهات فساد" جديّة. وأخفق في المرافعة عن نفسه، فأثبت أنانيّته ومدى تهافت حديثه عن الفساد والاقتصاد الريعي ولوبيّات المال والأعمال والتأثيرات الإقليميّة وتدخّلها عن طريق أدوات محليّة ومن داخل مؤسسات الدولة (تخوين آخر).
نحن أمام خطاب قيس سعيّد البائس عجزا بكلمات إلياس الفخفاخ المتهافتة مغالطةً…
مطيحنا بيهم…