سارع أستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية د. حمادي الرديسي إلى نشر ردٍّ "عنيف" على خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد بمناسبة أداء أعضاء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية، في مقال بمجلة "Business News" تحت عنوان معبّر جدا "قيس سعيد، المنتحل"، عنوان أثار حفيظة عدد من القراء، ومنهم يساريون ينتمون إلى العائلة الفكرية الكبيرة التي ينتمي لها الرديسي، ومن غير المحسوبين على أتباع الرئيس، كالصديق مصطفى العلوي الذي علق بالقول على ذلك الرد بالقول "الله ينجّينا من الآت"، قبل أن يعود إلى تحبير مقالة طويلة حوله.
سأنهج نفس نهج العلوي في تناول مقالة الرديسي بهدوء يبغي الفهم، مفككا لخطاب هذا الأخير، ومتسائلا عن علاقة البنية النصية بالبنية الذهنية للكاتب ومدى تدخل البنية النفسية بهذه الأخيرة وهي تختار صيغها وعباراتها، قبل أن أحاول التوقف عند الرسائل السياسية أو الثقافية التي نضحَتْ بها تركيبة النص، والتي أراد صاحبه إرسالها.
حرّر الرديسي نصّه باللغة الفرنسية، لُغةٌ يألفها وتألفُه، وبالتالي فهو يعلم طبقاتها في جرَيَان معنى الألفاظ، وفي "غيوم" المُضمَر والمُصرَّح فيها. لذلك لا يمكن تأويل الصيغة التي اختارها لعنوانه، والتي اقتصر فيها على قطعتين: الاسم، قيس سعيّد؛ والتقرير الحاسم بكلمة l’imposteur (المنتحل، سنعود لاحقا للترجمة)، إلا باعتباره حُكمًا باتًّا أطلقه الكاتب حال سماعه خطاب الرئيس، بل لعله قبل أن يكتب نصه حتى!!
تحتوي بنية النص على ثلاث دوائر تصب كل واحدة في الأخرى بنسق يشي برغبة في تكثيف التبرير للمصادرة الأولى التي حملها العنوان:
• استعمل الكاتب 8 مرات عبارة "الانتحال"، (في نص بصفحتين) ، وإذا أضفنا لها مرادفاتها (سواء بكلمة أو في شبه جملة) لأصبحنا نتحدث عن ثلث المقال تقريبا (manœuvre, tromperie, plagiat, charlatan, démagogue, supercherie, mystificateur, fait croire des choses, ne croit pas au vrai, manie l’art de fabriquer…) وهذا غيض من فيض !!! وهذا التكثيف لا يؤشّر سوى عن حالة من التوتر القُصْوَوي وعن مشاعر الصدّ العنيف لما جاء في خطاب رئيس الجمهورية، بل يصل إلى درجة رفض الشخص نفسه.
• تقديم سعيّد بهذه الصورة (حلل صديقنا مصطفى العلوي في مقاله المذكور لفظة inculture التي أطلقها الكاتب على قيس سعيد )يقابلها تقديم الكاتب لنفسه في صورة "المعلّم" المتعالي في علمه عن هذا الذي لم يفلح حتى في أن يكون "دكتاتورا"، بل إنه أعجز من ذلك ؟؟؟ أنظر إغراقه في التذكير بـــ"الدرس" اليوناني حول صورة الزعيم الشعبوي التي يزعم أن سعيّد حشر نفسه فيها، مؤكدا – بأسلوب ساخر – أنه دون تلك المرتبة حتى. نكتشف مع الرديسي أن لصاحبنا "ميولا إستبدادية"، ولكن هذا الأخير عاجز – أصلا – عن ممارستها إلا على "الأشخاص الطيّعين، الفاقدين لأي تميز" … أطنب الكاتب في ذلك الدرس، مؤكدا أن سعيّد لن يفهمه! وأنّا له ذلك وهو غير قارئ لماكس فيبر؟؟؟
• الدائرة الثالثة، وهي التي أعتقد أنها تمثل مربط الفرس والقادح الحقيقي لهذا الرد العنيف، الذي يبدو أنه كان يلجلج في الحلق لأسابيع طويلة، مترقبا الفرصة القادحة للخروج : موقف قيس سعيد من الميراث الذي عبّر عنه في خطابه يوم 13 أوت الماضي.
يصف الرديسي هذا الأخير في نهاية الفقرة الأولى من مقاله بــ"الفظاظة" (discourtois) بسبب رفضه للمساواة في الميراث، وزاده وصفًا آخر أكثر تبخيسًا، مُتخفّيًا وراء الفلاسفة: "انعدام الثقافة الفكرية لديه" (inculture)، وبالتالي فهو "لا يقدم لنا شيئا جديدا" في خطبه، وهو "مُلغِزٌ" "يغالط الناس" … ولكن الرديسي يكتشف أنه ذهب بعيدا في كيل "التهم" اللاأخلاقية لرئيس الدولة، فيذكّرنا أنه متعفف عن تشويه الرجل بالقول: "ولأنني أستحي، فإني أنزّه نفسي عن إيراد المزيد" (Par pudeur je n’en dirai pas plus)!!!
ولكن بالعَوْد إلى نص حمادي الرديسي، وبالرغم من اعترافنا للرجل بالاجتهاد المحمود في اختصاص الإسلاميات والعلاقات السياسية، وتقديرنا لعلمه ومنشوراته القيّمة المثيرة دائما للسؤال وللجدل والدافعة إلى التمحيص والمراجعة وبذل الجهد في سبيل معرفة علمية راقية، إلا أن السرعة ودرجة العنف اللفظي الذي صاحب رده على خطاب قيس سعيّد المذكور، كان صادما ومفاجئا للعديد من المتابعين للرديسي؛ إذ لم نعلم لهذا الأخير نقاشا علميا هادئا لأفكار الرئيس، رغم علمه بتوجهاته الكبرى كما يوحي هو بذلك.
أنا لا أدعي – على طريقة الصديق مصطفى العلوي – اختصاصا فلسفيا، ولست من أتباع قيس سعيّد، ولكني حريص على احترام عقولنا. إذ كيف يُعقَلُ لمفكر رصين مثل الرديسي أن يبني "لائحة اتهام" (النص المذكور) على بعض الإشاعات (أكاذيب!) التي فندها المعنيون أنفسهم، والجميع يعلم من روّجها ولأي مصلحة سياسية في الصراع الدائر بين الرئاسة والبرلمان والقصبة.
ألم يكن هو نفسه يلامس "أحابيل" صناعة الصور المُسوَقَة ويفكك آثارها على الوعي الجمعي في الأبنية السياسية والثقافية في التاريخ الإسلامي؟ فكيف يركن إلى "صناعة وهمية" (الاحتيال) وينطلق منها باعتبارها حقيقة "دامغة" نُلبِسُها للشخص المراد نقده. ألا يخشى الرديسي أن يكون قد مارس علينا (بعَمْدٍ) الاحتيال / الانتحال بجرّنا إلى موقف من صورة مسوّقَة، ليست هي بالضرورة الصورة الواقعية لشخص أو لحادثة، واستعمل لذلك أساليب الخطابة المنمّقة لإقناعنا بوجهة نظر، تحتاج قبلُ إلى الاتفاق على المصادرات التي بناها عليها؟