كدنا نقرّ بموتها ونستسلم لمرارة الفراق ونعوّد النّفس على أن نستأنس بغيابها ونتدرّب بمشقّة على النّسيان، حتّى حصل ما لم يخطر على بال ووقع ما لم يكن في الحسبان، تحرّكت بعض أطرافها وارتعشت جفونها واستعاد قلبها بعض الخفقان.
هي مصر الحبيبة المحروسة المنصورة المختطفة الحزينة المكلومة، أمّ الدّنيا و أمّ المظالم و الأحزان،مصر الّتي كلّما أصدروا لها شهادة وفاة إلّا و أصرّت على الحياة و كذّبت الأحكام ،فكذلك الأوطان كما الأفكار قد تمرض أو تذبل أو تغيب لفترة لكنّها لا تموت كطائر فينيق ينتفض من بين الرّماد.
فهل تنهض مصر وتنتصر على جراحها وتستعيد عافيتها وتسترجع عنفوانها لتقود قاطرة تعطّلت منذ أن أصابها الوهن واختلّ الميزان؟
وهل ما يزال الأمل قائما في صحوة بعد غيبوبة طالت أم ترى حصّل ما في الصّدور وفات الأوان؟
_انتفاضة لأجل الحياة :
بين منكر وغير مصدّق ومستخفّ ومهوّن لما يحدث وبين مهوّل ومبالغ في رفع سقف التطلّعات تبقى الحقيقة أنّ شيئا ما يحصل وفي طور التشكّل وأنّ واقعا بصدد التغيّر، مصر الّتي أعلنوا وفاتها واحتجزوا لها مكانا في ثلّاجة الموتى بل وضعوا أعضاءها للبيع في المزاد ما تزال حيّة مكذّبة ككلّ مرّة كلّ التكهّنات.
خيّل للجميع بأنّ النّظام الفاشي المصري قد أمكن له بقبضته الحديديّة من السّيطرة نهائيا على مصر ليثبّت حركتها ويكبّل أطرافها ويقطع أنفاسها غير عابئ بأنينها وهي تهمس بصوت خافت:" لا أستطيع التنفّس" كما في مشهد جورج فلويد الّذي وجد له بواكي بعكس مصر الّتي لم تلاق سوى مشجّعين للجلّاد وراقصين يستعجلون موتها وبعضا ممّن يدّعون الإنسانية الّذين اكتفوا بعتاب ملطّف ثمّ بغضّ البصر وصمّ الأذان.
ارتخى الجسد واعترته برودة شديدة وصار عصيّا على الاستجابة لأيّة استثارة، سفكت الدّماء وهتكت الأعراض وصودرت الحرّيات وكمّمت الأفواه واقترفت المظالم وقطعت الأرزاق وهدّمت منازل ومآذن وأضاعوا النّيل وسيناء وتيران وصنافير، دون ردّة فعل في مستوى ما يرتكب من انتهاكات.
كانت حملة الاعتقالات الواسعة الّتي تلت حراك20سبتمبر 2019 و الّتي طالت أكثر من 8000 مصري تؤشّر لأن لا حراك بعده،إلى درجة أن يستهين السّيسي بمطالب المحتجّين و يستمرّ بكلّ وقاحة في بناء القصور لنفسه و السّجون للبقيّة ، بل صار يلاحق المسحوقين البسطاء في ملكيّة منازلهم باسم مكافحة العشوائيات لأجل تحقيق رغبات حرمه المصون في تجهيز قصوره بما قيمته 2.9 مليار جنيه في حين أنّه خصّص 50 مليون جنيه لتنمية كلّ الصّعيد!
مصر الّتي ارتفعت مديونيتها للخارج إلى حدود 124 مليار دولار وارتهنت الأجيال القادمة في سلسلة من القروض تصرف في مشاريع بلا جدوى أو يلتهمها الثقب الأسود، منهمكة في انجاز مدينة جديدة بكلفة90 مليار دولار ستكون حكرا على بعض الأنفار في حين يرزح 80 في المائة من الشعب المصري تحت خطّ الفقر في تحقّق ليتوبا أحمد خالد توفيق.
تجرّأ السيسي على مُعْطَيَيْن طالما حذّر منهما المؤرّخون وعلماء الاجتماع باعتبارهما نذير خراب الأوطان وعلامة سقوط الدّول وهما غياب العدل والجباية المجحفة ولم يكن ليقدم على ذلك لولا تشتّت الدّاخل وتشجيع الخارج.
فالسّيسي نجح في أن يتخلّص من معارضيه ليشمل ذلك حتّى من ساندوه في بداياته ليتفرّد بحكم سلطوي مطلق تفوّق فيه على "بينوشيه" الشيلي و "ماركوس" الفليبيني و" شاوسسيكو" الرّوماني وكلّ الطّغاة العرب مجتمعين!
وهو الّذي يمتدحه الرّئيس الأميركي ترامب بوصفه بدكتاتوره المفضّل ويعتبره الصّهاينة هبة السّماء إلى حدّ اعتبار صحيفة هارتس أنّ كارثة ستحلّ "بإسرائيل" إن سقط السّيسي مستحيل تداركها، في حين يقول "دان مرغليت" أحد كبار المعلّقين الصّهاينة:"سنبكي دما ان سمحنا بسقوط السّيسي".
وسط هذا المناخ الخانق والانسداد التّام كان خروج المحتجّين من أعماق قرى مصر ونجوعها مفاجئا وغير متوقّع في انتفاضة غايتها الحقّ في الحياة.
_هل تشهد مصر ثورة حقيقية؟
قد يقلّل البعض من أهمّية ما تشهده مصر من حراك أخير انطلق في 20 سبتمبر 2020 استجابة لدعوة المقاول الفنّان محمّد علي، ويصوّرون الاحتجاجات على أنّها موجة عابرة ستمرّ بدون أثر كما في السّنة الماضية ولن تشهد مصر ثورة عاصفة تطيح بالنّظام أو حتّى برأسه كما حدث في 25 يناير 2011.
فالأعداد المشاركة قليلة إلى حدّ الآن ولا ترتقي إلى درجة الكتلة المؤثّرة، والمحتجّون أطفال مشاغبون وشباب مهمّش و مفقّرون أصحاب جلابيب، يتحرّكون بلا قيادة و لا خطّة و بدون سند أيّ حزب و يمكن إسكاتهم و إجهاض حراكهم ببعض الكلام المعسول و قليل من التّنازلات.
نعم غابت البدلات الأنيقة والأحذية البرّاقة والشعر المصفّف وشفاه "البوتوكس" وصدور" السّيليكون" وأهل النّخبة وأصحاب السّياسة والكياسة لتعوّضها الجلابيب المعطّرة بأديم الأرض والأيادي المخضّبة بطينها وأطفال أعيتهم الحياة قبل دخولها فنضجوا قبل الخوض في تفاصيلها.
هو حراك بلا قيادة ولا توجيه وبلا يافطات وفوق أيّة وصاية اندلعت شرارته في اطفيح بالجيزة ليعمّ كلّ المحافظة وينتقل إلى الصّعيد لتشهد قرى ونجوع أغلب محافظات مصر انتفاضة حقيقية أعلنت مطالبها صراحة منذ البداية والّتي تتلخّص أساسا في إسقاط النّظام ورحيل السّيسي باعتبار أنّ وجوده يسلبهم حقّهم في الحياة.
لا يمكن الاستهانة بعدد المشاركين نظرا للكلفة الباهضة للنّضال ضدّ أحد أبشع أنظمة الاستبداد الموجودة على سطح البسيطة، فالثمن في الغالب سلب الحرّية أو الحياة، وأهمّية انتفاضة الأطفال وجلابيب الكرامة تكمن في أنّها انطلقت من الأطراف المهمّشة مع توسّع الرّقعة الجغرافية الّتي تشهد الاحتجاجات وتطوّر ملحوظ في أعداد المشاركين في كسر لجدار الخوف وهو ما لا يمكن جبره.
كلّ الثورات كانت في بدايتها شرارة تطوّرت إلى كرة نار تكبر بقدر حجم الاحتقان وبكيفية تعامل المستهدفين بتلك الثورة إذ غالبا بغبائهم واستعلائهم وعنادهم ما يسكبون الزّيت على النّار ليعجّلوا بسقوطهم وفنائهم.
استمرار الحراك وتوسّعه في الرّقعة وفي العدد قد تجعلنا نأمل في أن يتحوّل إلى ثورة حقيقيّة تعصف بنظام السّيسي الجائر ولا أظنّ عاقلا يتصوّر بأنّه بالإمكان إيجاد من هو أسوأ من السّيسي!
تقول "شينويت في دراسة لها حول أسباب نجاح الثّورات صدرت سنة 2011:" أنّ بمجرّد أن يصل عدد المشاركين في احتجاج شعبي إلى 3.5 في المائة من إجمالي عدد السكّان فان النّجاح يتحقّق لا محالة".
إلى جانب التأكيد على ضرورة وحدة الصفّ والمطالب والاعتبار من أخطاء ثورة25 يناير 2011 المغدورة.
هي فرصة قد لا تتكرّر لمن يسعون إلى تغيير الواقع البائس فمن العبث تأجيل ثورة اليوم إلى الغد.
سئل دبلوماسي عربي سابق عن سبب وهن العرب وضعفهم وقلّة تأثيرهم برغم كثرة دولهم وثراء مواردهم فأجاب:"هي مصر إن مرضت أصاب الوهن الجميع".
كم نحتاج إلى مصر معافاة قويّة ممتلكة لقرارها وسيادتها لتستعيد ريادتها وقيادتها وتكون المحرّك لقاطرة توقّفت في انتظار أن يصلح ما فيه من عطب.