مر الحوْل على انتخابات 2019 التونسية وآن أوان الحساب. لم تمت بعد الانتخابات، ولكننا لم نحي. لقد سُرق منا فرح كثير علقناه على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبؤنا بخيبة ماحقة. ربما نخفف على أنفسنا بأن حالنا أفضل من اليمن الشقيق، فخسارتنا ليست بشرية، لكن علاقتنا بالدولة ورموزها وشخصياتها سقطت دون ما كانت عليه قبل الانتخابات، وهذه خسارة يعسر ترميمها في زمن قصير.
سلسلة الأخطاء المهلكة
أخطاء توليدية تتناسل من بعضها، كلما حاولنا أن نقطع السلسلة وجدنا بدايتها تطاردنا. البداية كانت ذلك القانون الانتخابي الذي يمنع الجميع من الحكم. منه تولد عجز سياسي في المؤسسات وفي الأحزاب التي عجزت عن تغييره وحمّلت البلد نتائجه، فلما خضعت له أعادت إنتاج العجز ودخلت به انتخابات 2019.
(هذا دون استعراض نتائجه الكارثية قبلها مثل برلمان 14-19).
تجاهل القانون المعيوب والقبول بنتائج القانون في الصندوق وعقد الأمل عليها لإحداث تغيير ما؛ كانت غلطة أخرى ساهم فيها المتفائلون قبل المتشائمين. لقد وجدنا أنفسنا أمام برلمان مشتت غير قادر على إفراز كتلة حكم.
اغتنم الرابحون من القانون، أي الناجون بصنارة أكبر البقايا، فرصة دخولهم للبرلمان، فمنعوا الفائزين من الحكم وهنا بدأت سلسة الخطايا الثانية. الحزب الفائز آثر السلامة وانحنى لعاصفة استئصالية، وكان هذا خطأ فادحا ضاعفه تقديم شخص مجهول وبلا أية شخصية قيادية، فكان أن مر الثلث الأول من السنة بلا حكومة إنجاز.
العجز السياسي جلب حكومة ثانية فتحاملنا على أنفسنا ونفخنا في بوق الأمل، متجاهلين المقدمات الخاطئة لعله يستقيم الحال، فإذا نحن نقع على رئيس حكومة يتلاعب بالمال العام مستغلا منصبه وشبكة علاقات نسجت خفية عن أعيننا، وإذا نحن ندخل نصف السنة الثاني بلا حكومة في بلد يتفشى فيه وباء وهو يواجهه أعزل.
الحكومة الثالثة القائمة الآن تزعم التخلص من الأحزاب، أي من نتائج الصندوق، فهي تحكم بالخوف من الفراغ، اكتملت الدائرة علينا. فعوض قلب الطاولة على القانون المعيوب وإعادة الانتخابات على أسس جديدة، آثر الجميع التقدم نحو مجهول سياسي، ونحن فيه الآن نعاني الموجة الثانية من الوباء الكوني ونتعزى فقط بحلول السماء، فحكومة المشيشي تخلت عن شعب تخلى عن نفسه راغبا.
الرئيس الذي كأنه رئيس
حالة اليتم هذه جعلت كثيرين يولون وجوهم تجاه الرئيس، فإذا الرئيس يعيش في عالم مواز لهمومهم. مر الرئيس بتفويض شعبي عارم لم يحصل عليه من سبقه، لكنه لم يقترب ممن فوضه ولم يفكر معه، ولم يظهر في المحطات الحرجة من عامه هذا. ولا شيء يدل على أنه سيفعل شيئا يذكر الناس به غير فرضه رئيس حكومة متحايلا، وآخر يفسر الماء بالماء كتكنوقراط متنيين.
خيبة الناس من الرئيس تتسع كل يوم، فهو في الجنوب الرجل الذي أغلق باب الرزق القادم من ليبيا، وهو في الشمال الرجل الذي لم يظهر في بؤر الفقر ليحفز على العمل أو يواسي المتروكين على هامش الدولة. فضلا عن ذلك، فإن الطبقة السياسية والنخب التي تراقب الشأن العام نفضت أيديها من فكره ومن سياساته الداخلية والخارجية. لقد خرج الرئيس من عواطف الناس أو أغلبهم ومن تفكيرهم ومن مصادر أملهم في رئيس. لقد صار الرئيس حالة نفسية (إكلينيكية).
هل كان هذا واضحا منذ بداية ظهور نتائج الانتخابات؟ نعم ولكن.. الجميع اختلق الأمل ليعيش، ولكن اختلاق الأمل لا يجعله أملا حقيقيا بل تأجيل كارثة.
هل ستستمر نتائج انتخابات 2019 إلى مدتها القانونية؟
الروح المستكينة التي بحثت بعد الانتخابات عن بصيص رغم وعيها (النسبي) بأن المقدمات المغلوطة تؤدي إلى نتائج خاطئة؛ مستمرة في الناس وزادها كورونا تغلغلا في النفوس. فلغة الإحباط مسيطرة والشعور باليتم يستشري، والمستقيلون من الشأن العام يزداد عددهم، وهم يتهمون الجميع بخذلانهم؛ بدءا بالأحزاب الفائزة وتلك المتسللة إلى البرلمان بأكبر البقايا.
يربح الخطاب الفاشي والشعبوي مساحات فعل سياسي واسعة بقدر الاستقالات، ويحرض ضد الثورة والآمال الشعبية المعقودة عليها، ولا أحد ممن في موقع قرار يستدرك ليقدم فكرة جديدة تحيي النفوس. هذه الروح تفقد الأمل في الصندوق الانتخابي، ومع زفرات اليأس تسمع جملة واحدة بكل اللغات: "ما الفائدة؟".
نرجح أن هذا اتجاه فعل سياسي عام عنوانه الإعراض عن التغيير بواسطة الصندوق. وهنا تكون سنة 2020 سنة التخلي عن الديمقراطية، ولكن هذه المرة ليس بفعل الدكتاتورية، بل بفعل الفشل العام الذي تراكمه النخبة السياسية منذ خضوعها للقانون الانتخابي المعيوب، وتعجز عن إسقاطه والذهاب إلى الصندوق بقانون جديد. والسؤال الذي سيطرح كثيرا ليس من العاجز، بل من الأعجز ضمن النخبة التي تزعم التصدي للشأن العام؟
وإذا كان يجوز للمتابع أن يصدر تقييما لهذا العام السياسي، فإن الخلاصة هي أن نتائج انتخابات 2019 أبعدت التونسيين عن مسارهم الديمقراطي، وهذه أسوأ نتيجة ينتهي إليها مسار سياسي يزعم الإيمان بالديمقراطية. فشل عام رغم أننا لم نصل إلى الحالة اليمنية، وهذه جملة حزينة للتعزية ليس أكثر، ربما يجوز بعدها أن ندعو ليحمي الله شعب اليمن، فشعب تونس تخلى عن نفسه طائعا وتحول إلى حالة إكلينيكية.