حول تنقيح المرسوم 116 الخاص بالإعلام
لننس لحظة من تقدم بمشروع التنقيح، ;نتذكر أن صراع حرية الإعلام مع الأنظمة القمعية كان دائما حول مبدأ التصريح أو الترخيص عند إنشاء مؤسسة إعلامية، كل المجتمعات المتحضرة انتصرت لحق وحرية التعبير بمبدأ التصريح، ولم يعد إنشاء مؤسسة إعلامية رهين رخصة حسب المزاج السياسي للسلطة، بل رهين كراس شروط وضمانات مهنية، ومحاسبة بعدية وليس قبلية على النوايا، ذلك أن مكان المعركة الحقيقية في الإعلام ليست في السماح لعشرات أو مئات المؤسسات الإعلامية، بل في الفصل بين المحتوى الصحفي كمنتوج صناعي له ضوابط وقوانين معروفة وبين الإدارة التي لا تخلو من مصالح مالية وسياسية.
الغريب أننا تاريخيا كنا في نظام التصريح تحت الاستعمار الفرنسي، أول مشروع مجلة صحافة في تونس كان في نهاية الثلاثينات بمشاركة نقابة الطباعة syndicat du livre وقام هذا القانون مثل أغلب قوانين المجتمعات المتحضرة على مبدأ الإعلام وليس الترخيص في الفصل 13 الشهير، أي أن تعلم الذات المادية أو المعنوية الدولة بإنشاء مؤسسة إعلامية، واطلعت ووافقت على القوانين المنظمة لها،
لكن نظام بورقيبة ثم بن علي حولوه إلى نظام ترخيص شخصي بإضافة جملة "ويسلم وصل في ذلك" إلى الفصل 13، وهو ما لا يحدث أبدا إلا لأصدقاء النظام في شكل مكافأة بعد مدة من ممارسة المديح المجاني وشتم الأعداء بمقابل،
كما جعل النظام الرخصة "إسمية" أي مرتبطة باسم شخص مادي لتهديده بالسجن عند الاقتضاء وهي لا تورث ولا تباع ولا تستأجر. لقد ناضلت أجيال من التونسيين من أجل إلغاء نظام الترخيص وعند انهيار نظام بورقيبة كان هناك أكثر من 700 مطلب صحيفة في إدارة الشؤون السياسية في وزارة الداخلية وأكثر منها عند انهيار نظام بن علي. لقد بين نظام الترخيص فساده في أكثر من مجال مثل أي احتكار نظامي آخر، ومنها أن الحاصل على رخصة مؤسسة إعلامية كثيرا ما يستعملها للسمسرة أو الابتزاز.
مبدأ قانوني كوني: الأصل في الأشياء هي الإباحة والاستثناء هو المنع أو التضييق الذي يجب أن يكون مبررا خصوصا حين يتعلق الأمر بالحريات، وأرجو أن لا تكون مبررات أصدقائي الرافضين لمبدأ الإعلام إعادة لمبررات نظام بن علي مثل الخوف من "تعكير صفو النظام العام"، بقيت نقطة أخرى مؤسفة، وهي أن كثيرا من الأصدقاء وحتى الزملاء يقولون: "نظام الإعلام يخص الصحف، الإذاعات والتلفزات أكثر خطرا"،
وهذا في رأيي لأنهم لا يستوعبون الخصوصية الصناعية في الإعلام التي تمثل أكبر وأهم ضمانة لمحتوى مطابق للقانون وفيه تراتبية هرمية في الإنتاج تفرض مسؤولية جسيمة على المحتوى سواء كانت مجلة أو صحيفة أو إذاعة أو تلفزة أو حتى موقع أنترنيت، لأن أكبر مصيبة أصابت الإعلام في تونس بكل أنواعه هي تمكن الدخلاء وأصحاب المال واللوبيات من العمل الصحفي،
لقد اتفقت المجتمعات التي سبقتنا في حريات الصحافة على أن أكبر خطر على الإعلام هو التداخل بين الإدارة والتحرير، أي أن يعين صاحب المؤسسة نفسه رئيسا للتحرير ويأتي بجماعته من مهن أخرى ممن لا يميزون بين الخبر والتعليق ليصبحوا صناع محتوى غير مهني وغير صناعي مفضوح أحيانا، تماما مثل أن تملك مصحة ثم تطالب بإجراء العمليات الجراحية بنفسك، بحجة أنها مصحتك وفلوسك، وهذا ما يحدث الآن في أغلب المؤسسات الإعلامية الخاصة،
غير أن صناعة المحتوى الصحفي يجب أن تكون وجوبا خاضعة لما جاء في الاتفاقية المشتركة 1975 في قانون الشغل وكل ملاحقها التعديلية في تعريف صناع المحتوى من الملحق بالتحرير إلى رئيس التحرير ومستوى المسؤولية القانونية والإدارية في ذلك، وهي الضمانة الوحيدة في أن يكون الإنتاج الإعلامي مطابقا للمواصفات الصناعية أولا، وللقانون ثانيا.