في عام 1938، نشر عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون نصاً شهيراً في أدبيات العلوم الاجتماعيّة عنوانه "البنية الاجتماعية والانحلال الاجتماعي" (Social Structure and Anomie). في هذا النص، طرح ميرتون نظريّة جديدة حول مبعث السلوكيّات الموصومة بالمنحرفة في المجتمع، وكانت نظريّة ثوريّة في وقتها.
فعلى عكس النظريّات البيولوجيّة-الاجتماعيّة الرائجة إلى حدود أوائل القرن العشرين، والتي كانت تفسّر السلوكيّات المنحرفة على أنها استجابة لنزعات بيولوجيّة وراثيّة، قدّم ميرتون فرضيّة جديدة تقول أنّه ما يوصم بسلوكيّات منحرفة في المجتمع هي استجابات اجتماعيّة لضغوطات اجتماعيّة. بمعنى أوضح، فإنّ السلوكيّات المنحرفة هي وليدة محاولة للتكيّف مع حالة تفكّك تعيشها بنية المجتمع، يسميّها ميرتون (على غرار إيميل دوركايم) بالانحلال الاجتماعي.
تحديداً، يعرّف ميرتون حالة الانحلال الاجتماعي بوصفها حالة تنافر بين الوسائل المشروعة اجتماعياً والرغبات المشروعة اجتماعياً. أي، تنافر ما بين الأهداف التي يضغط المجتمع على الأفراد من أجل تحقيقها والوسائل التي يوفّرها لهم من أجل ذلك. بالطبع، تعرّضت نظريّة ميرتون في الخمسينات إلى نقد شديد من قبل أنصار نظريّة الوصم، إذ اعتبروا أنّ على العلوم الاجتماعيّة أن لا تسلّم بتصنيف السلوكيّات الاجتماعيّة السّائد في المجتمع، بل دراسة جذوره وآثاره وكيف يصبح المنحرفون منحرفين) على غرار هيوارد بيكر في كتابه (Outsiders على كلّ، لعلّ أكثر جانب مثير للإهتمام في نظريّة ميرتون، هو محاولته وضع تصنيف لأشكال السلوك المنحرف الذي يتبنّاه الأفراد كاستجابة لحالة الانحلال الاجتماعي. وفي ذلك، سعى إلى وضع تصنيف رباعي:
- السلوك الإبتداعي: في هذه الحالة، يقبل الأفراد الأهداف المشروعة اجتماعياً لكنهم يرفضون الوسائل المشروعة اجتماعياً لتحقيقها. أي، مثلاً، يقبلون قيم مجتمع الإستهلاك، لكنهم يرفضون أو يعجزون عن الانخراط في العمل الأجير. وهو ما يدفع نحو ابتداع وسائل سلبيّة لتحقيق هذه الأهداف، على غرار الجريمة أو الهجرة غير النظاميّة. لكن، قد يؤدّي هذا السّلوك أيضاً إلى ابتداع أشكال إيحايبيّة من الضغط على المجتمع لتمكينهم من وسائل تحقيق الأهداف المشروعة اجتماعياً، مثل الاحتجاج أو بناء الحركات الاجتماعيّة.
- السلوك الانسحابي: في هذه الحالة، يرفض الأفراد كلاً من الأهداف المشروعة اجتماعياً والوسائل المشروعة لتحقيقها. أي، مثلاً، يرفضون قيم مجتمع الإستهلاك ويعجزون عن الانخراط في العمل الأجير. وهو ما يغذّي سلوكاً انسحابياً من المجتمع، على غرار إدمان المخدّرات المفرط.
- السلوك التطبيعي: في هذه الحالة يرفض الأفراد كلاً من الأهداف المشروعة اجتماعياً والوسائل المشروعة لتحقيقها. لكنهم، بصفة متناقضة، يواصلون التطبيع مع الوسائل المشروعة لتحقيق الأهداف المشروعة اجتماعياً. أي، مثلاً، يرفضون قيم مجتمع الإستهلاك والعمل الأجير، لكنهم لا يتوقفون عن العمل الأجير أو البحث عنه. أي، مثلاً، يستفيقون صباحاً، ويلعنون وظائفهم أو حالة البطالة المعممة، من ثم يتوجهون إلى العمل أو البحث عن عمل.
- السلوك المتمرّد : في هذه الحالة، يرفض الأفراد الأهداف المشروعة اجتماعياً والوسائل المشروعة لتحقيقها. لكنهم، لا يكتفون بالتطبيع معها. على العكس من ذلك، يلجأ الأفراد إلى التمرّد على المجتمع، والسعي إلى بناء مجتمع آخر تكون له أهداف ووسائل أخرى مشروعة لتحقيقها. وفي هذه الخانة يمكن، على سبيل المثال، تصنيف التطرّف الجهادي.
على كلّ، رغم النّقد الموجه إلى نظريّة ميرتون، التي تتجاهل بوضوح آثار السّلطة والقوّة في تفسير السلوكيّات الموصومة بالمنحرفة، إلا أنّ لها قدرة تفسيريّة هامة إن حاولنا تطبيق بعض مقولاتها على المجتمع التونسي اليومي. فتكاثر الظواهر التي يصنّفها مجتمعنا اليومي على أنّها انحرافات، بل مخاطر أصلاً، يمكن فهمها على أنها استجابات لحالة انحلال الاجتماعي.
تتكثّف هذه الحالة خصوصاً في ما نعيشه من تهاوي مؤسّساتي، الذي لا يعني فحسب فقدان المؤسّسات قدرتها على ضبط الأفراد، بل فقدانها أساساً قدرتها على مدّ الأفراد بالموارد التي تتيح لهم بلوغ الأهداف المشروعة اجتماعياً بوسائل مشروعة اجتماعياً.
وفي هذا الإطار تطرح قضيّة المصعد الاجتماعي، والذي يشار به أساساً إلى الوسيلة الشرعيّة السّائدة في المجتمع التونسي لتحقيق الأهداف المشروعة فيه، وهو ما يعني التعليم. هل الحلّ في إصلاح التعليم؟ في إصلاح سوق الشّغل؟ أم في إبتداع أشكال تعليميّة وشغليّة جديدة؟
في نهاية المطاف، كلّ المشكلات التي نعيشها اليومي ينبغي أن تقودنا إلى هذه الإشكاليّة، كيف نعيد بناء مجتمعنا من جديد؟ أي، كيف نعيد تعريف أهدافنا الجماعيّة المشروعة وابتداع وسائل مشروعة جديدة لبلوغها؟ لكن، للأسف، نحن لا نجيد طرح الأسئلة الجيّدة. وما يقلق أكثر، في أيّ مجتمع، ليس تقديم الأجوبة الفاشلة، بقدر ما هو طرح الأسئلة المغلوطة. وهي أسئلة قد تدفع، في كثير الأحيان، نحو إعادة تعريف تسلطيّة وإقصائيّة للمجتمع.