مع السجال السياسي الثقافي الذي دشّنه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون بحديثه عن " أزمة الإسلام"، قبل جريمة قتل أستاذ التاريخ الإرهابيّة الشنيعة، وتوسُّع هذا السجال وبلوغه درجة عالية من التوتّر، عادت بي الذاكرة إلى الضجّة العالميّة الكبرى التي كانت أحدثتها رواية "آيات شيطانيّة" في فبراير من سنة 1989 لكاتب بريطاني مغمور من أصول هنديّة يُدعَى سلمان رشدي. وقد عاش العالَم يومها على وقع أزمة سياسية وديبلوماسيّة كبرى وجدال سياسيّ تطوّر إلى سجال ثقافي حضاري غطّى تاريخ الغرب والإسلام وشغل حاضرهما وامتدّ إلى مستقبلهما توقّعا وتقديرًا.
صراع الثقافات وحدوده
لم يكن يخطر ببال سلمان رشدي الكاتب الروائي البريطاني من أصول هنديّة أن يكون لإحدى رواياته هذا الأثر الهائل في العالم وأن تهزّ سياساته وتحالفاته، ولم يكن يتوقّع هذه الرغبة الجامحة في الاطلاع على روايته من قبل من هدّد كاتبها بالقتل قبل غيره.
كذلك لم تكن إدارة "شارلي إيبدو" ترى من حلّ لمجلّتها التي تشكو من قلّة القرّاء ومن أزمات ماليّة متفاقمة تُنذر بإيقافها عن الصدور. فإذا بعبارة Je suis Charlie تصبح شعار فرنسا كلّها وعنوانا لرافضي الاعتداء الإرهابي الذي استهدف دار المجلّة. ثم صارت العبارة رمزا لمناصرة حريّة الإبداع ومناهضة الإرهاب في فرنسا وأوروبا والعالم.
هذه الوقائع الصغيرة التي تنطلق من نقطة مغمورة، ثمّ تتحوّل شيئا فشيئا إلى منازلة عالميّة ومواجهة سياسيّة تستنفر المخزون الثقافي وقوته الرمزيّة وطاقته التعبويّة، حرّكت أقلاما وعقولا في الجهتين لم يمنعها السجال ومنطق الردّ من التفتيش بهدوء ورويّة في عمق هذه المصادمات التي تكاد تكون دوريّة بين الإسلام والغرب خاصّة.
لم تعرف آيات شيطانيّة التي ظهرت في 1988 وأثرها منعرجا حاسما إلا مع فتوى الإمام الخميني بإهدار دم سلمان رشدي في 1989. وتشير الفتوى إلى السياق السياسي الذي قرئت فيه الحادثة وما يُميّزُه من صراعٍ على قيادة العالم الإسلامي بين السعوديّة وإيران وثورتها التي قدّمت أوّل صياغة للإسلام من خارج الفضاء السنّي المستسلم لآل سعود ومنوالهم العائلي الوهّابي المُفوّت.
وتأتي الفتوى أشهرًا بعد إعلان الإمام الخميني عن إيقاف الحرب ( 8 ـ 8 ـ 1988) التي استمرّت ثماني سنوات مع العراق، وكان شَبَّه قراره هذا بتجرّع السمّ. وهو في تصوّرنا تعبير عن اصطدام الثورة الإسلاميّة وقيادتها الحالمة بامتناع فكرة "تصدير الثورة" وتغيير الشروط الإقليميّة ومحاور الصراع الدولي. وأنّه ليس لإيران أكثر من بناء تجربة وطنيّة على غرار تجارب الاستقلال جميعا.
ويختلف سجال اليوم حول رسوم شارلي إيبدو المستعادة وجريمة القتل البشعة في علاقتهما القويّة بالسياسة وتوازناتها ورهاناتها عن الذي كان في آيات شيطانيّة. وإذا كان سياق الثمانينيات من وجهة نظر استراتيجية إعادةَ ترتيب منطقة الخليج بعد سقوط نظام الشاه شرطيّ الولايات المتّحدة فيها، وبروز الثورة الإسلاميّة فاعلا جديدا غير قابل للتصنيف بعد، فإنّ سياق نهاية العشريّة الثانية من الألفيّة الثالثة (أكتوبر 2020) تُمثّل إعادةَ ترتيب حوض المتوسّط بعد عشر سنوات على ثورة المجال العربي وتدشين منعطف سياسي جديد عنوانه مرحلة الانتقال إلى الديمقراطيّة.
ترتيبات جديدة
اعتُبِرت فتوى الإمام الخميني محاولةً من إيران، في ثمانينيّات القرن الماضي، لتمثيل المسلمين في ظلّ الحرب الباردة انطلاقا من الخليج، وبداية تصدّعٍ واضحٍ للاتحاد السوفياتّي بعد حربه في أفغانستان (1979 ـ 1989). وكانت في هذا الاتجاه محاولةٌ من الثورة الإسلاميّة لإعادة تعريف الصراع في العالم وشقّ طريق ثالث يرى في صراع الامبرياليّتين الامريكيّة والسوفياتيّة منافسةً داخل المنوال الثقافي نفسه، وأنّ التجربتين تمثّلان الاستكبار في مواجهة مستضعفي العالم.
ويأتي السجال الفرنسي التركي في مرحلة جديدة مختلفة من منظور الاستراتيجيا وصراع المحاور والعلاقة بالمجال العربي. ولئن حافظت المحاور القديمة على حضورها في المنطقة، فإنّ ترتيبات جديدة فرضتها تحولات عميقة أهمّها ما يعرفه المجال العربي من تحوّل غير مسبوق يمكن وسْمُه بـ"الانتقال إلى بناء الديمقراطيّة" لنحت كيانه السياسي القومي على غرار مجالات بنت كياناتها كالمجالين الجارين التركي والإيراني.
فكأنّ إيران بعرفانها كانت لا ترى في المجال العربي إلاّ جزءًا من شرق حالم تطمع بقيادته، وكأنّ تركيا بعثمانيّتها لا ترى فيه إلاّ جزءًا من هويّتها المنشطرة بين الشرق والغرب. وكلاهما لا ينتبه إلى ثورة المجال العربي التي ترى في الوطن العربي نواةً صلبةً لـ"غرب جديد" يولد في ضفّة المتوسّط الجنوبيّة بعد أن أصاب "الغرب القديم" في ضفّته الشماليّة إعياءٌ شديد. في هذا السياق، أفضى بروز المحور القطري التركي الداعم لمسار بناء الديمقراطيّة في المجال العربي، إلى جرّ جانب من النخبة السياسيّة والفكريّة القريبة من المحور الإماراتي الصهيوني المناهض لبناء الديمقراطيّة، إلى تنزيل التوتّرات حول موضوع الرسوم المسيئة في سياق الاستراتيجيّة الإخوانيّة بقيادة أردوغان ووسَاوسه العثمانيّة الإمبراطوريّة.
يبدو أنّ الرئيس ماكرون افتتح باكرا سجالاته مع الإسلام حين أشار إلى ما أسماه بـ"أزمة الإسلام". وماكرون هنا ليس باحثا في الفكر السياسي ولا في تاريخ الأديان أو في الأنتروبولوجيا بقدرما هو رئيس جمهوريّة فرنسا. وهو ما يُلْزِمُه بواجب التحفّظ المطلوب. وفي هذا التوجّه من إطلاق الكلام على هواهنه، أتى حديثه عن تونس وعلاقتها بالإسلام فهْمًا وتمثُّل،اً فاعتبر « علاقة التونسيين بالإسلام وطريقة فهمه وتطبيقه كانت قبل ثلاثين سنة مختلفة جذريًا عما هي عليه اليوم برغم ما عليه التونسيون من ثقافة وتعلّم ». ولم يكن يَخْفَى أنّ هذا الجدل الذي دشّنه على علاقة بصراعه مع أردوغان في حوض المتوسّط وثرواته. ومثّلت عمليّة قتل الأستاذ البشعة منعرجاً انجرف إليه الرئيس الفرنسي ولم يجد طريق العودة عنه بسهولة، بعد أن بدأت مقاطعة المنتجات الفرنسيّة تُلقي بتأثيراتها على فرنسا. وكانت بعضُ الأصوات الفرنسيّة المحترمة في السياسة والإعلام أثارت نقاطَ استفهام عديدة حول العمليّة الإرهابيّة وحول توقيتها وهويّة الشخصيّة مرتكبة جريمة القتل الفظيعة.
مرجعيّة الأمة والدولة في الصراع
عند آيات شيطانيّة وشارلي إيبدو تقاطعت عدّة مشتركات رغم ما يباعد بينهما من زمن، ولكنّ آخر أمرا جامعا بينهما كثيرا ما يختفى وراء احتدام السجال وهو هويّة المتواجِهِين.
انجرّ عن رواية آيات شيطانيّة ردود فعل عنيفة في البلاد العربيّة والإسلاميّة، فكانت المظاهرات المليونيّة في بنغلاديش وماليزيا وباكستان، وعرفت بعضها حوادث موت مؤسفة. كما كان للنخب مواقف من الرواية وصاحبها. ولم تتخلّف النخب العربيّة والإسلاميّة وخاصّة الحداثي منها عن الانخراط في موجة مناهضة للتعصّب والتشدّد. وساند أكثر من مائة مثقّف عربي سلمان رشدي في حقّه في الكتابة الروائيّة وناهضوا دعوة الإمام الخميني إلى إهدار دمه. ومن هؤلاء الشاعر السوري أدونيس والروائي المغربي الطاهر بن جلّون والقرقيزي جنكيز آيتماتوف واللبنانيّة حنان الشيخ والفلسطيني أميل حبيبي وصاحب جائزة نوبل الروائي نجيب محفوظ والمؤرّخ التونسي هشام جعيّط. وقد كتب هؤلاء مقالات مهمّة على أعمدة أشهر الصحف العربيّة والعالميّة.
ولكنّ مقالا لهشام جعيّط كتبه في تلك الفترة بمجلّة "اليوم السابع" الفلسطينيّة المهاجرة مازال عالقا بالذهن. وفي هذا المقال لم يُخْف هشام جعيّط تعاطفه مع سلمان رشدي وحقّه في الكتابة، ولم يفُته وجهُ التشدّد في فتوى الإمام ولا غاياتها السياسيّة، ولكنّه توقّف عند قضيّة أهمّ أفصحت عنها تلك الموجة العالميّة من ردود الأفعال.
نبّه جعيّط إلى أنّ التحركات الشعبيّة وردود الأفعال الغاضبة التي اجتاحت عالم العرب والمسلمين وأوروبا والعالم تنديدا برواية آيات شيطانيّة التي تُصَوِّر نبيَّ الإسلام في دور مدير ماخور، وانتصارا لفتوى الإمام الخميني تشهد بوجود فكرة إسمها "الأمّة" رغم اختلاف الألوان والأعراق، ورغم اختلاف الدول التي ينتمي إليها العرب والمسلمون في بلدانهم وفي العالم. وأنّ الدولة الحديثة بما هي هويّة وحدود سياسيّة لم تطمس فكرة الأمّة. وبقيت الأمّة رابطا عابرا للدول والأعراق والقارات.
ويشير الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي في أحد مقالاته إلى حقيقة قريبة من هذه التي توقّف عندها المفكّر هشام جعيّط. فيذْكُر ما لاحظه من أنّ أية فتوى تصدر عن عالم من علماء المسلمين في أيّة بقعة من العالم، وبقطع النظر عن مكانة هذا العالم أو الفقيه، هي فتوى تعني كلّ مسلم في العالم. وفي هذا عودة إلى فكرة الأمّة.
ولكنّ الذي يعنينا أنّ المسلمين مثل غيرهم ينتمون إلى دول بالمعنى الحديث للدولة. وينتمون إلى الدولة بما هي حدود سياسيّة وإداريّة واقتصاديّة ومعيشيّة. غير أنّ هذه الدولة لم تنجح في المجال العربي الإسلامي في أن تلغي رابط الأمّة بمعناها الواسع. وقد يُنظر إلى هذا على أنّه صورة من فشل عمليّة التحديث، مثلما قد يُنظر إليه على أنّه صورة من مقاومة ثقافيّة لتحديث قصريّ يفتقد إلى التبيئة المطلوبة داخل شروطه الثقافيّة.
ورغم هذا الاتساع وافتقاد مداه لحدود واقعيّة فإنّ للحدود الذهنيّة سلطانها ودورها في رسم خطوط الانتماء الأقوى. فنحن أمام خطابين ومرجعيّتين: الدولة والأمّة.
نافذة على تجربة الدولة هنا وهناك
وما يعنينا من كلّ هذا أمران نكتفي بإثارتهما عسى أن تكون مجالات أخرى للتوسّع فيهما والتدقيق في مكوّناتهما.
الأمر الأوّل: وهو أنّ ماكرون في سجاله مع "الإسلام المأزوم" يتكلّم باسم الدولة، فهي المرجعيّة التي تضبط خطابه وتحدّه، وهي هنا الدولة الفرنسيّة. وهذا لا يتناقض مع خروجه، في إطار السجال، إلى المعاني الإنسانيّة والقيم الكونية كالحريّة والمساواة والأخوّة. ولكنّه في خطابه لا يتوجّه إلى دولة بعينها، إنّه يتوجّه إلى المسلمين الفرنسيين، وإلى المسلمين في فرنسا وفي العالم ومنهم مسلمي الدول العربية والإسلاميّة. وإذا كانت ردود أفعال الدول العربيّة والإسلاميّة مختلفة باختلاف أنظمتها السياسيّة وحتّى مذاهبها فإنّ موقف الشعوب الإسلاميّة يكاد يكون واحدا.
وهذه الدول مختلفة المواقف يجمعها في موضوع آيات شيطانيّة وفي رسوم شارلي إيبدو رابط الأمّة. وهي تلحّ عليه في بعض الأحيان، لإدراكها آثار مفهوم الأمة. وهو ما انتهى إليه هشام جعيّط من أنّ تجربة الدولة الحديثة في المجال العربي الإسلامي لم تتخلّص من مفهوم الأمة السابق عليها (الأمّة الإسلامية). في حين نجد أن الدولة في أوروبّا والتي التبست بمفهوم الأمّة أيضا وكان منطلقها (الدولة/الأمّة) انتهت إلى حدود جديدة غالبة تجاوزت حدود الأمّة. وما عرفته أوروبّا الشرقيّة من بروز للقوميّات، بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، يعود إلى ملابسات نشوء تلك الدول (العسف الستاليني) أكثر مما هو استجابة لقوانين القوميّة وهويّتها الثقافيّة. والأهمّ من كل ذلك ما يقوم بين مفهوم الأمة (رابطة الدم) في أوروبا وبين مفهوم الأمّة مع الإسلام: قوميّة "أمّة الدعوة" وأممية "أمّة الاستجابة"(للناس كافّة) ، بعبارة رضوان السيّد.
ومن ناحية أخرى فإنّ الدول الأوروبيّة، ومنها دول الاتحاد الأوروبّي، إنّما تساند ماكرون من منطلق هويّتها السياسيّة (دول مستقلّة) وليس من منطلق الثقافة المسيحيّة. والشعوب الأوروبيّة رغم ثقافتها المسيحيّة فإنها استسلمت لحدود الدولة/الأمّة بمعناها الحديث، وما بناء التكتلات الأوسع إلا أحد مظاهر الضيق بالمفهوم القومي للأمّة والوعي بمحدودية الكيانات القوميّة في نظام عالمي واسع. وأنّ أزمة الدولة الحديثة سليلة الحداثة الأوروبية هي في وجه من وجوهها أزمة "الدولة/الأمة وبلوغها نهاياتها.
هذا يحيلنا إلى الأمر الثاني المتعلّق بتجربة الدولة عندنا وتجربتها في أوروبا وتحديدا الدولة في فرنسا. وهذا مجال بلا ضفاف نكتفي منه بإيراد عناوين تكثّف المبحث وتوجزه.
من المهمّ أن نسأل: هل أشكال الانتظام السياسي التي ظهرت في تجربتنا التاريخيّة يمكن تصنيفها ضمن تجربة الدولة؟
نكتفي بالإشارة إلى بُعديْن في هذه التجربة. يتمثّل الأوّل في أنّها تجربة لا تضع للانتظام السياسي حدودا جغرافيّة ترابيّة مثلما كان عليه الأمر في أوروبا مع ظهور فكرة "الوطن" سليلة المرحلة الإقطاعيّة وأطوار الملكية الزراعية فيها (أرض السيّد المسيّجة التي لا يُدخل إليها إلاّ بترخيص مكتوب…سيصبح جواز سفر في الدولة الحديثة). في حين نشأت علاقة السلطة بالفضاء في المجال العربي الإسلامي في سياق فكرة "الحِمَى". والحمى مساحة جغرافية ولكنّه مجال نفوذ جغرافي سياسي وقيمي غير ثابت الحدود محكوم بالنفوذ الساسي ومداه. لذلك لم تكن لـ"الدولة الإسلاميّة" حدود(حدودها سياسيّة وليست جغرافية، حتّى عندما تعددت رؤوس الخلافة والمرجعية السياسيّة بين بغداد ودمشق وقرطبة) .
والجدير بالانتباه إليه هو أنّ السلطة في التاريخ السياسي العربي الإسلامي ليست وسيطا تنوب عن معنى مفارق بقدرما كانت "مبلّغا" ومن ثمّ خادما للجماعة السياسيّة بشروط هذه الجماعة نفسها (خادم القوم سيّدهم، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته). وأمّا في أوروبّا فقد نشأت الدولة من فكرة "الوسيط" وهي فكرة تأسيسيّة في التصوّر المسيحي، فتكلّمت باسم الإله في بدايتها ثمّ نابت عنه، بعد قتله (موت الإله وميلاد الإنسان الكامل، وهي بدورها صورة من فكرة صلب المسيح الذي تألّه بعد حلول الله فيه). وبهذا المعنى كانت الدولة تجلّيا لفكرة دينيّة في السياق الأوروبي بمفهوم الدين في المسيحيّة في القرون الوسطى. ولم تخرج علمانيّتها عن التصوّر الحداثي الذي كان بدوره علمنة للمسيحيّة بفضل الإصلاحيْن الديني والفلسفي انطلاقا من القرن السابع عشر.
لم تخرج علمانيّة أوروبا عن قول يُنسَب إلى المسيح "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، التي تُخفي أنّ من يميّز بين نصيب الله ونصيب قيصر هو قيصر نفسه، أي الإنسان. لذلك كان اعتبار أنّ "الدين هو ما يفهمه الناس من الدين" جوهر الإصلاح المحمّدي (نفي الوسيط بين الإنسان والله). ومن هذا المنطلق تبدو تجربة العرب المسلمين "مضادّة للدولة" أو رفضا للوسيط والارتهان لانتظام عمودي قاهر (جور الأديان، بعبارة الأخ ربعي بن عامر)، أو هي رغبة في انتظام مجاوز لها/له في ظلّ علمانيّة أخرى توحيدية يسميّها الفيلسوف المغربي طه عبر الرحمان بالائتمانيّة. غير أنّ مرحلة الاستقلال التي عرفتها البلاد العربية وملابستها أفضت إلى تجربة تحديث لم تنتبه جيّدا إلى الثقافة الوطنيّة وإلى شروط النهضة فيها. وتأتي ثورة المجال العربي في مطلع الألفيّة الثالثة ضمن هذا المشغل: بناء دولة المواطنة في الشروط الأهليّة.
أمّا في فرنسا فإنّ ملابسات معلومة جعلت الدولة فيها لائكيّة. وجعلت من فرنسا "الدولة الدينيّة الوحيدة في أوروبّا". ومضمون "دينيّتها" في أنّها تتدخّل في شأن مواطنيها الحميمي مثل اللباس والرموز الدينيّة فتمنعهم من لباس وتسمح لهم بآخر. والدولة قد لايكون في خطابها أثر للمعجم الديني، ولكنّ "نظام خطاب"هــا عميق الجذور في "الثقافة الدينيّة" بالمعنى المسيحي للدين والثقافة.
في السجال الدائر اليوم، وهو قابل لتوتّرات أعلى، نحن أمام صدام بين مرجعيّات مختلفة مطلوبٌ أن تُدير خلافها. ومطلوبٌ أكثر أن توفّر فرص تعارفها. فمع التعارف تهدأ النفوس وتُكتَشَف الأبعاد الإنسانيّة وراء اختلاف الألوان والألسن وطرق تحصيل المعاش.