تحدثتْ علوم المناهج عن "الفخاخ" المنهجية المحتملة التي تحدّ من علمية الخطاب لدى الساسة في فترة الأزمات او الفشل في تحقيق أهداف مُعلنة. وقد استفاضت في الحديث عنها المدرسة الماركسية في البداية مستفيدةً من المدرسة الألمانية، ومن الاشتراكية الفرنسية، ومن نمط الإنتاج الرأسمالي الانجليزي الذي بلغ ذروته في القرن التاسع عشر.
وتتمحور هذه الفخاخ المنهجية التي تؤدي الى مزالق نحو "اللاّعلم" لدى بعض السياسيين الذين اخذوا طوعًا من العلم سبيلًا لرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق أهداف مهمّتهم. وقد محور الفكر ُ هذه الانزلاقات حول "الاغتراب" او "الاستلاب" بأنواعه التي تختلف من زمن اجتماعي الى آخر. و"بيت القصيد" هنا، هو خطر "الاغتراب السياسي".
ومختصر الحديث هو انّ العلم كونه البحثَ في جوهر الأشياء، كما يُعرّفُه ابن عاشور، يفرض الاستقلالية الفكرية من كل الضغوطات، كما كان عليه غاليلي تجاه "العلوم الرسمية" الكنيسية، ولا يكترث بالاكراهات السياسية ولا بوجوه الاغتراب الاجتماعي على عكس ما فرضه هتلر على علمائه البيولوجيين حين امرهم بالبرهنة على ان جمجمة الجنس الآري مختلفة عن جمجمة الساميين.
وإذْ لا اتحدّث بالضرورة عن الخطاب الاحصائي او المتضمن لمفردات "علمية" في ظاهرها، فاني افكر في السواد الأعظم الذي قد يظن ان في هذا الخطاب ابداعا، فتنطلي عليه مناورة استخدامه للفعل السياسي، خاصة زمن الانطباع والعاطفة. وهنا، إمّا ان ينجو هذا "السياسي-العالم" بذاته، أو ان يختفي وراء المفردات العلمية للنجاة سياسيًا والبقاء في حلبة مجموعات الضغط التي يقتات من خلالها…
- نادرا ما انتصر العلم على السياسة في الواقع الا من خلال الثورات حيث يتجاوز الوعيُ الجمعي، وعيَ الساسة بالواقع. واعتقد ان السياقات الاجتماعية والسياسية الحالية مؤاتية لتحيّن فرصة تاريخية، قد لا تُعاد، للجمع بين العلم والسياسة وتحييد العلاقة بينهما قدر الإمكان من وطأة الايديولوجيا والجري وراء الأجندات الشخصية التافهة، اذا صدقت النوايا وكانت النزاهة والوطنية عنوانًا للجميع.
- أخضع النظام السابق الجامعة التونسية لأهدافه السياسية من خلال ترويضه واستقطابه لأفضل بُحاثها وأساتذتها خاصة في الاقتصاد والحقوق. ومنذ ذلك الحين، لم نسمع لهم مواقف علمية ضد اخضاع الجهاز العلمي الوطني لخدمة اجهزة النظام الأوتوقراطي، بل ليسوا مهيئين للحديث عن سياساته المغيبة للمواطنين عن واقعهم لاعتبارهم طرفا في ذلك.
وقد نجد هذه الملامح تقريبًا في كل ما نشروه بعد "اربعطاش جانفي": الوصف عوض التحليل، الماضي المحلي كمرجعية عوض المستقبل الكوني، الاستهتار في بعض الأحيان بالطبقة السياسية الجديدة، قلة الحيلة وضعف الخطاب وعدم الاطلاع الكافي على وجهات النظر الحديثة.
- كانت مساهمات علم الاجتماع السياسي من ناحية وعلم الاقتصاد السياسي من ناحية اخرى عظيمةً في التدقيق في بعض المسائل حيث يُعتبر انتصار الفعل السياسي على شروط الخطاب العلمي وارداً حتى في زمن الديموقراطيات والحريات حين ينزلق هذا "العالم-السياسي" الى استهداف الريع لفائدة مجموعات الضغط او للحساب الخاص.
فلا غرابة حين تشهد تقييمًا ذاتيًا لأداء بعض الوزراء، محفوفًا بالإنجازات والانتصارات الوهمية، في حين ان تقييم المعارضة يكون دائما سلبيا لنفس الاداء. ولكن الطرفيْن كلاهما فاقد للموضوعية بقراءته البتراء للواقع والتي لا تخضع البتة الى شروط الخطاب العلمي الخالي من الاغتراب. فإن كانوا صادقين/علميين، فلينشروا تقييمهم "العلمي" في مجلات علمية مُحكّمة…
ولن يحدث ذلك باعتبار استحالة الارتقاء الى الخطاب العلمي البحت، ومادام الفضاء العام متاحا للصادقين ودون ذلك، وقد يطغى هؤلاء على اولئك..