رحم اللّه الرّئيس الرّاحل الباجي قائد السبسي، كم افتقدنا حضوره الركحي المميّز، سحنته و خفّة دمه و بديهته العفوية و صواريخه الخفيفة المداعبة و المرحة الحاضرة و الجاهزة على منصّاتها يطلقها حين تستدعى الحاجة فيحوّل بها لحظات الشدّ العصيبة إلى فترات ارتخاء و راحة و يجعل الغاضب يبتسم مضطرّا و المستنفر الموتور يهدأ.
اشتقنا إلى حركاته و شطحاته و كلماته و لغته المقتطفة من شجرة خضراء لم تتخشّب بعد و القريبة من مسامع المتلقّين، البسيطة و المبسّطة و المبلّغة للمعنى بمفردات دارجة و مستخرجة من قاع "الخابية".
في إحدى زلّات لسانه تحدّث عن الاستقلاب عوض الانقلاب، زلّة لسان مرّت مرور الكرام مع أنّها مصطلحا كان من الممكن إضافته إلى القاموس اللّغوي السّياسي التّونسي لكونه المعبّر عن ميكانزمات ما يجري في تونس منذ ما يسمّى بدولة الاستقلال.
فالاستقلاب في الواقع هو جملة التّفاعلات الكيميائية الأيضيّة و ما تنتجه من بناء أو هدم و مع ما تمتصّه أو تعطيه من طاقة أمّا متلازمة الاستقلاب فهي مجمل الإخلالات الّتي يمكن أن تحصل خلال تلك العمليّات، و تتجلّى كلينيكيا بالسّمنة و مرض السكّري وارتفاع نسب الدهون الثلاثية و الكوليسترول في الدّم و النّقرص و الجلطات القلبيّة و الدماغيّة و القصور الكلوي.
و يبدو أنّنا مصابون بمتلازمة الاستقلاب منذ نشأة دولة "الستٌ قلال "و نتيجة لوثيقة الزّواج الكاثوليكي المبرمة مع المحتلّ السّابق الحاضر الغائب فإنّ كلمة الانقلاب خطيئة كبرى و كلمة يعتبر النّطق بها كفرا بوّاحا و لا بدّ من استعارة صيغ أخرى و هذا ما حصل حين تلاعب الزّعيم الرّاحل بورقيبة بالمجلس التّأسيسي لينقلب على الباي بعد انقلابه على رفاق دربه ثمّ ما حصل له حين انقلب عليه المخلوع بن علي بانقلاب طبّي و أخيرا ما حصل خلال أيّام الثورة من لغط حول استعمال الفصل 56أو 57 من الدّستور، مع الإشارة أنّه خلال أحداث ڨفصة سنة 1980 تدخّل الجيش الفرنسي دون طلب إذن أحد عندما خيّل للنّظام أنّ تمرّدا عسكريّا قد حصل.
و ما يحصل اليوم من طوفان للمطلبيّة القطاعيّة و الجهويّة و احتجاجات و إضرابات و صبّ للزّيت على النّار و مطالب تعجيزية تحوّلت إلى مقالب، لا يمكن أن تستحمله دولا مستقرّة قويّة فما بالك بالرّخوة و الهشّة و الفاشلة في وضع اقتصادي كارثي و تفكّك اجتماعي و شبه حالة احتراب أهلي أسّس له نافثي خطاب الحقد و الكراهية مع انسداد سياسي و تغييب لصوت الحكمة ،ما هو إلّا شكل مبتكر للاستقلاب و تحويل وجهة المسار .
الظّروف استثنائية و تتطلّب حلولا غير تقليدية، هذا ما يروّج له المستقلبون و هم كثر و الرّئيس المؤتمن على وحدة البلاد و أمنها يرفض انعقاد مجلس الأمن القومي و عوض أن يكون موحّدا و جامعا و مساهما في إنقاذ ما يمكن انقاذه يشترط حوارا على مقاسه يستثني منه الفاسدون مع أنّ الفساد في هذا البلد لم يستثن أحدا، و يلمّح إلى صيغة جديدة غير تلك الّتي استعمل فيها الحمار رباعي الدّفع و كأنّه يشير الى بطّة عرجاء يرفّ لها جناح فيردّ عليه الآخر!
يتمّ هذه الأيّام نشر الفوضى و ضرب القانون في مقتل و الإجهاز على ما بقي من هيبة الدّولة و تهديد المواطن في رزقه و أمنه و وجوده حتّى ينطق كلمة الكفر بالحرّية و الثّورة فيثور على الثٌورة و يعود طواعية إلى اسطبل الدّواب حيث الأمن و الأمان ليسبّح بحمد من أنقذه من ورطته و أحياه بعد أن كاد أن يهلك.
و يبدو أنّ فخامة الرّئيس أو "بابانا" كما قال "الدكتور" الطرودي، مستمتع بما يجري و مستسلم لهلوساته و ما توسوس له شياطينه و هو يرى تنسيقياته الّتي لم يتبرّأ منها تنسّق مع قطّاع الطّرق و شذاذ الأفق و لاعقي أحذية المستبدّين و الرقّاصين و أيتام نظام الطّاغية المقبور و أوسخ ما في الدّولة العميقة و المصابين بمتلازمة الاستبداد، لأجل إسقاط المسار المتعثّر أصلا دون بديل واضح سوى عودة إلى مربّع الاستبداد و قد لا يكون فخامته سوى أرنب سباق يستغنى عنه مع بلوغ الهدف و حصول الغاية.
هكذا ستكون فسائل الحرّية عرضة لحوافر المصابين بمتلازمتي الاستقلاب و الاستبداد، فهل ستصمد و تزهر؟