منذ كنت على مقاعد الدراسة، كان سؤالي كلما تعرضنا إلى الشهداء: هل بقي لهم ما لم يتمّوه في حياتهم؟ وبقي هذا السؤال يعود لي كلما ذكرت الدغباجي تحديدا، أو تعرضت إلى جحافل الشهداء الذين جندلهم الاستعمار أو دولة بورقيبة أو النظام النوفمبري أو كلما حضر الحديث عن شهداء الثورة. هل ذهبوا ولهم بقية من أعمال لم ينجزوها؟ هم بالتأكيد كانوا مثلنا، لهم مشاريعهم ومواعيدهم وعائلاتهم وأصدقاؤهم. لهم كل أشيائهم الخاصة، والصغيرة وحتى التافهة. فهل رحلوا بعد أن رتّبوها جميعا؟ أم رحلوا وهم يتحسّرون على أنهم تركوها خلفهم؟
في ذلك اليوم الأغر، 14 جانفي، كنت وعميرة في الزحمة أمام الوزارة، نهتف مع الجماهير الهائجة، ونتنفس الهواء النّديّ، ونخرج بين الفينة والأخرى إلى الشوارع المحاذية، للاستراحة وتناول قهوة وتنفس الهواء النقي، ثم نعود إلى حيث كانت الجموع تتحدى النظام في حماس منقطع النظير، وتشير إلى العمارة الرمادية بأيديها: ديغاج، ديغاج. خبز وماء وبن علي لا.
وعلى هامش تلك الزحمة التقينا أربعة مؤرخين، كنت أصغرهم سنا، وقد تعرضوا بدرجات مختلفة إلى القمع، وكان بيننا العظيم رؤوف حسين حمزة الذي لاحظت يومها حالة الهزال التي أصبح عليها، وتبين فيما بعد أن المرض الخبيث قد أصابه، وكنت شاهدا على الرسالة التي أراد أن يوجهها من خلال رابعنا، إلى حركة التجديد التي كان ينتمي إليها خلال فترته الطلابية، داعيا إياهم إلى تجاوز التقسيمات والاعتبارات الإيديولوجية.
ديغاج يا خماج. هكذا كانت الجموع تهتف في حماس في مواجهة الداخلية. لم تكن هناك إيديولوجيا ولا انتماءات، وإنما التقى الجميع من أجيال مختلفة في حصة للعلاج الجماعي، للتخلص من أسقام وأتعاب وعاهات تسبب فيها النظام على مدى عقود. كم عانى هؤلاء أو بعضهم في زنزانات الداخلية، ومن قوّادة الشٌّعَب والعُمد، وكم منهم سُجن وعُذّب وقُهِر وحُرِم من حقوقه في الدراسة أو العلاج أو الشغل أو السفر، كم من أقاربهم عُوقِب أو نُفِي...
وأما أنا فقد شعرت بعد أن انفض الاعتصام بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع، بأني وُلدت من جديد، وأنه أسعد يوم في حياتي. ولو تلقيت رصاصة طائشة في ذلك اليوم لما شعرت بأنه بقي لي شيء لم أتمّه، بعد أن تخلصت من كل الأدران. ويقيني بعد ذلك، أن السنوات العشر التي أعقبت 14 جانفي، هي سنوات مضافة إلى العمر. رحم الله شهداء الثورة.