الذكرى العاشرة لفرار الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي إلى السعودية بعد اشتعال "ثورة الياسمين" التي طالبت بالحرية والعدالة الاجتماعية. الحرية ضمانة تغيير نحو الأفضل وقد ترسخت الحرية في تونس بعد عشر سنوات من هروب الدكتاتور لكن كثيراً من الدولة لا يزال بين يدي نظامه ورجالاته. والفكرة الحاكمة لا تزل فكرته الخانعة المتواكلة على التبعية والمناولة. إن رجاله يتراجعون أمام الحرية، لكن التغيير العميق في النفوس لم يترسخ بعد. هذه محاولة تقييم للسنوات العشر من الحرية المتعثرة في تونس.
وجهة النظر المتفائلة
نعاين موقفين من الثورة ونتائجها، أحدهما متفائل يستبشر بمستقبل ديمقراطي والآخر متشائم لا يزال يرى صعوبة الطريق إلى الديمقراطية، وبين المتفائل والمتشائم واقعيون يرون أن شروط بناء الديمقراطية ليست متعلقة بهوى الأفراد ورغباتهم، بل بتوفير شروط القوة المادية في بلد تابع اقتصادياً.
الموقف المتفائل إذا احتفل بعيد الثورة أو دُعي إلى الكلام خارج المناسبة ركّز على الفلاح في وضع دستور ديمقراطي وعلى رسوخ التداول على السلطة عبر الانتخابات.
فتَعدُّد فرص الانتخابات الحرة والنزيهة وإن كانت شكلية كفيل عندهم ببناء الديمقراطية وضمان الحريات السياسية والإعلامية.
فالديمقراطية لا تُبنى دفعة واحدة، ولذلك فإن المتفائلين يدعون الناس إلى الصبر على مكاره التحول من عهود القهر الراسخة إلى محاسن الديمقراطية الناشئة. وهذا الصبر أو الدعوة إليه مبرّر كافٍ عند هؤلاء لعدم الخوض في الفشل الاقتصادي الذي يدفع البلد إلى حافة الهاوية ويجعل أيتام بن علي يستعيدون صورته وعهده بكثير من الفخر.
ولهذا التفاؤل سر مفضوح، هو أن مروّجيه شاركوا في السلطة منذ الثورة حتى الآن أو حموها من خارجها، وبرّروا لها تأنّيها وبطء فعلها في الواقع. ونسمّي هنا الإسلاميين على سبيل المثال.
لقد كانت مطالبهم قليلة، فالسماح بحرية لبس الحجاب مثّل عندهم مكسباً كبيراً، بل غنيمة. إنهم يفكّرون بعدُ من موقع الضحية التي لم تتبنَّ المستقبل وتسعَ إليه. لذلك فالقليل يرضيهم وإن كان على حساب مشروع مستقبلي مختلف.
المتشائمون كثر
وأغلبهم مشغول بالخبز العادي المنقوع في المذلة كما في عهد بن علي. فالمهمّ أن يملؤوا الثلاجة بأقل كلفة، رغم أن هؤلاء في مقدمة المستفيدين من الثورة مادياً، إذ هم في الأغلب مكونات طبقة وسطى متمركزة في مؤسسات القطاع العامّ ولها نقابات جلبت لها كل مكسب حتى ما كان خارج القانون كالتوريث الوظيفي.
لقد جيّروا الثورة إلى مطالب ومكاسب كلما أخذوا منها ازدادوا نهماً وتباكَوا على المزيد الذي يريدون، وقالوا إن الثورة دمّرت سَكِينتهم وأقضّت راحتهم.
ولقد تحسست أن أعلى المتشائمين صوتاً هم النخبة الجامعية الكسولة التي لم تستثمر معرفياً في الثورة ولم تغير خططها (حتى المقررات الدراسية لمختلف الدرجات التعليمية)، ولم تلتحق بفئات شعبية قادت الثورة ودفعت الثمن وبقيت خارج نظام المنافع الذي أسسه بن علي لفائدة الطبقة الوسطى الكسولة ذهنياً وسياسياً.
بين النخب والشارع قطيعة يرسّخها إعلام لا يزال بين يدي رجالات بن علي ومنظومته.
بعض الواقعية مطلوب
لقد ترسخت الحرية في تونس، وهي تتحول رغم كل خطاب التشاؤم والتبرير الخانع إلى إكسير حياة وخامة بناء للمستقبل.
هذا مُعطىً، لا فكرة من نسج الخيال. ونحن نكتب من داخله لنكشف أن منظومة بن علي لا تزال تحكم لكنها تكشف ضعفها وفقرها وعجزها على التجدد مع كل يوم. لقد انكسرت بهروب بن علي، وما صوتها العالي الآنإلا حشرجة محتضَر.
ولتتضح الصورة نؤكد أنه قد تولدت من المنظومة قوة مشابهة لها يمكن أن تستمر بها لمدة أطول من المتوقع. لقد انتقلت البندقية إلى كتف أخرى، هي هنا النقابة لا تؤمن بالديمقراطية، وهذا مما لم يمكن توقُّعه في البداية طبقاً لطريقتنا القديمة في القراءة.
فنحن نشأنا في تونس على أن النقابة أداة من أدوات الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وهذا خطأ قاتل، وقد تَبيَّن لنا أن النقابة فرضت نفسها كنائب جديد للمنظومة القديمة، وورثت طبعها وأساليبها وزادت عليها فخرّبت التحول نحو الديمقراطية أكثر مما خدمته.
وإلى ذلك نرى أن منظومة الأحزاب السياسية التي تعلمت أبجديات السياسة تحت الدكتاتورية لم تفلح في توليد خيال سياسي جديد مؤمن فعلاً بالحرية ويعمل على بناء الديمقراطية.
فهذه المنظومة ظلت أسيرة للمعركة الاستئصالية التي فرضها بن علي تكملة لسياسة بورقيبة، فأعادت المنظومة إنتاج خطابها القاصر، ورسخت العجز، واختلقت كل المعارك الممكنة المعيقة للتقدم.
والشعب حتى الآن أسير هذه المعركة التي تحطّم الحكومات وتشتّت التركيز على معارك التنمية، والبصيص الوحيد المتاح هو أنه صار بإمكان الشعب أن يراها في عريها السياسي ويفضح ممارساتها بفضل سقف الحرية العالي.
الأمل يُولَد من رحم الإحباط
هذه هي الجملة المتفائلة اليتيمة التي يمكن أن نكتبها ونؤسّس حولها فكرة جديدة. لقد هرب بن علي وانكسرت جماعته السياسية وهي تحارب مُدبِرة. الأرض تتحرك بهدوء غالباً وبقوة أحياناً تحت أقدام منظومة بن علي. ربما كان علينا القبول بهذا البطء كشرط للتقدم، فالقديم ليس هشّاً كما نرغب، ولكننا لم نعُد نراه قويّاً كما أُوهِمْنا وكنا نتمنى.
إن الضعف ينكشف، ومواقع القوة الشعبية تُسفِر عن وجهها في الكامور وفي جمنة وفي مواقع أخرى، ونُحسِن الظن بولادتها العسيرة وتَقدُّمها على طريق الديمقراطية الصعب، وندرّب أنفسنا بالفعل على الصبر على النتائج البعيدة.
نسمّي هذا الذي يجري بالفرز الديمقراطي المُسنَد بحرّية جبارة. الثمن حتى الآن كبير ومؤلم، ولكن قراءة تجارب الآخرين تُؤنِسنا من الخوف.
لقد بذلت شعوب كثيرة أثماناً باهظة لترسيخ حرياتها، وقد يكون ما دفعْنا قليلاً بعدُ، لكنه ثمن معقول حتى الآن، وكل مكسب إضافي سيقتضي منا ثمناً أعلى. ولسنا في موضع دفع الناس إلى بذله، فهذه زعامة لا ندّعيها. سيدفعونها دون نصيحة منا، فثمرة الحرية ألذّ من أن يُنصح بتناولها.