حلت الريبة والجفاء بين الرئيس قيس سعيد وحزب حركة النهضة قبل الانتخابات، رغم أن جميعهم يصلي في مسجد واحد، ثم تعمقت العداوة بعدها فصارت إلى قطيعة. ولم يشفع أن حزب النهضة صوّت لقيس سعيد ورفع رصيده بما أذل منافسه. ظاهر العلاقة الآن مهادنة وباطنها حرب باردة يتحين فيها كل طرف نقيصة منافسه. فما جوهر الخلاف؟ وهل يمكن تجاوزه فكريا وسياسيا؟ نحاول الإجابة محتفظين بقدر كبير من الواقعية، فكثير من خلافات السياسة يعود إلى أمزجة لم تتربّ في الديمقراطية.
أطروحة النهضة في سبل الديمقراطية
ولدت الحركات الإسلامية عامة، وحركة النهضة جزء منها، بعد ترسخ تقاليد الديمقراطية التمثيلية في الغرب واستقرار تجاربها وظهور نتائجها الجيدة. لكن ملابسات الميلاد داخل حركة تحرر وطني اصطبغت بعداء نفسي أكثر منه فكري للغرب الاستعماري؛ جاء برفض نفسي (وألحّ على ذلك) للديمقراطية التمثيلية.
لذلك استعاد الإسلاميون مفهوم الشورى كمفهوم بديل ليتحرروا من لفظ الديمقراطية، لكنهم غالبا ينتهون في أدبياتهم إلى أن جوهر الوسيلتين واحد. ولذلك شاركوا في كل انتخابات سُمح لهم بخوضها دون حرج من اختلاف موهوم بين المفهومين/ السبيلين، وكان ذلك تدرجا على طريق المشاركة في الشأن العام عبر الديمقراطية التمثيلية. وهذه السوابق فتاوى اجتهادية يمكن اعتمادها دون حرج، وقد تم.
ثم طلبوا تكوين الأحزاب على قاعدة المشاركة في الديمقراطية التمثيلية ودخلوا البرلمانات قبل الربيع العربي (الأردن والكويت والسودان والمغرب) وبعده (مصر وتونس). واختفى تقريبا حديثهم عن تعارض الشورى مع الديمقراطية، بل يوشك مفهوم الشورى أن يسقط من أفواههم وبياناتهم.
تقدم إسلاميو تونس (حزب النهضة بالتحديد) خطوات تنظيرية بحديثهم عن اسلام ديمقراطي، ولكن خطوتهم الكبيرة كانت في فرض الباب السابع من الدستور التونسي، وهو الباب الذي يذهب إلى حد الديمقراطية المباشرة.
كان لحزب المؤتمر ومؤسسه المرزوقي دور كبير في الاقتراح والفرض والمصادقة، ولكننا لسنا بصدد تثبيت حقوق ملكية في سياق جدالي وإنما نحاول الإجابة عن السؤال المطروح في المقدمة: كيف لمن اقترح ثم فرض الباب السابع أن يختلف مع مشروع قيس سعيد للديمقراطية المباشرة، وغايتهما واحدة واختلافها في التفاصيل لا في المبدأ.
نوضح أكثر؟
يقترح الباب السابع من الدستور أن يقسم البلد إلى أقاليم ستة يجمع كل إقليم مجموعة من الولايات (المحافظات)، ويكون الحكم المحلي فيها قائما على الانتخاب بما يجعل كل إقليم محكوما من أبنائه المقيمين فيه، وتحت حكم الإقليم يكون حكم الولاة أو المحافظين، وتحتهم يكون حكم المعتمد أو المسؤول المحلي الأقرب إلى سكان منطقته وصولا إلى انتخاب العمدة (مسؤول القرية أو الحي) أو من يقوم مقامه (لم تحدد التسميات في نصوص قانونية مفصلة للدستور بعد). ويبدأ الانتخاب من القاعدة (العمدة) الى رئيس الإقليم، ولكل إقليم برلمانه أو مجلسه الجهوي المنتخب.
وتوجد هنا إمكانيات لصيغ انتخابية لم يدققها الدستور، وتمكن صياغتها بسهولة تقرب بين الأطروحات المختلفة (الباب مفتوح). وتعتبر مجلة الجماعات المحلية بوابة تشريع مفتوحة وقابلة للتطوير بما يلائم أفكار الرئيس ومبادئ الدستور.
قال الباب السابع بالانتخابات المحلية دون أن يحدد طبيعة القانون الانتخابي الذي سيعتمد في ذلك، وقد جرى الأمر حتى الآن باعتماد القانون الساري منذ انتخابات 2011 (المجلس التأسيسي وبرلمانين متتابعين). وهذا القانون صار الآن محل جدال كبير لأنه وإن أفرز مجلسا تأسيسيا عبر عن كل قوى المجتمع، فإن ما نتج عنه هو تفتيت المشهد السياسي ومنع أي طرف من تحمل مسؤولية الحكم. لذلك تتعالى الأصوات بتعديله وفرض عتبة انتخابية للحيلولة دون برلمان بأكبر البقايا.
مقترح الرئيس قيس سعيد في عمقه تجاوز للقانون الانتخابي الحالي، إذ يقترح نصا جديدا يقوم على انتخاب الأفراد وليس على القوائم، ويقترح تصعيد المنتخبين من القاعدة لمن يمثلهم من بينهم في السلطة الأعلى إلى حين تكوين برلمان بالتصعيد لا بالانتخاب المباشر. (تجب الإشارة إلى أن الرئيس وبعض من فريقه تحدث عن هذا، ولم تصدر عنهم نصوص مكتوبة للتوضيح ولم يقدم مشروع قانون للبرلمان حتى الآن).
وهذه الخطة الانتخابية ليست مرفوضة من حزب النهضة فقط، بل هي ليست محل قبول من مكونات الطبقة السياسية. وربما لو تقدمت للبرلمان على شكل مقترح لرفضت رفضا كبيرا، فمناصرو الرئيس داخل البرلمان وخارجه ينحازون إليه لما يظهره من جفوة لحزب النهضة، وكثير منهم يرغب أن يخوض الرئيس حرب استئصال ضد الحزب ليريحهم بسلطته من عدو لم يقدروا عليه بأنفسهم. (فهم كما وصفناهم سابقا مستبضعون عاجزون بذاتهم قادرون بغيرهم وهذا الغير عاجز). لكن إمكانية الجمع بين مضمون الباب السابع ومقترحات الرئيس ممكن دون الإضرار بالديمقراطية.