نسأل الله السلامة للجميع، كما نسأله السلامة لعقولنا…

رواية الحوادث، ولو على وجه الكذب والاختلاق، تقتضي حبكة متينة تسدّ المنافذ والثغرات التي يتسرب منها الشك، ومنطقا ناظما يحكم مسار الأحداث وحركة الأبطال وتفاعلاتهم ولو كان منطقا مغالطيا.. ولذا عدت ضحالة الخيال وجدبه من الإعاقات التي تضرب المتحدّث في مقتل، وتسم رواياته بالكذب، وتجعل الناس يقبلون عليها بالتشكيك..

ولعل من شطارة الراوي استشراف تفاعلات المتلقين، مسبقا، والتحوّط لردودهم، وحضور البديهة في الخروج من المآزق.. وقد حفلت مدونات الأدب العربي بأخبار الكذابين الظرفاء، أما بلادة الخيال فقد عدّت، في عرف العرب، من النقائص التي تضع الراوي في خانة الكذابين الثقلاء..

روى الجاحظ في "كتاب الحيوان": "قال أبو علقمة: كان اسم الذَّئب الذي أكل يوسف رجحون! فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ: وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ، قال أبو علقمة: إذن، هذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف"!.. يعلق الجاحظ قائلاً: "فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب، لأنَّ الذئابَ كلها لم تأكله".

وفي التاريخ المعاصر، خلّدت الأحداث أسماء كذّابين ظرفاء، من أمثال المرحوم محمد سعيد الصحاف، الذي أبدع حبك روايات متينة البناء، أثناء الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين.. وفي يوم 4/8 كان يسرد ملاحم إبادة "العلوج" في جنوب العراق وفرارهم إلى الصحارى إلى أن ظهرت في خلفية الشاشة دبابة من دبابات العلوج وهي تتقدم على جسر السنك وسط بغداد، ولكنه واصل الحديث بأسلوبه الظريف وبلاغته الجميلة ولم يترك للمذيع فرصة السؤال عما يجري إلى أن اختفت الدبابة بعد عبورها الجسر، ونسي المشاهد الصورة ولم يبق في ذهنه سوى صورة الصحاف وقسمات وجهه ووعيده للعلوج بمزيد الأيام السوداء التي تنتظرهم..

نسأل الله السلامة للجميع، كما نسأله السلامة لعقولنا…


خليفة علي حداد:*كاتب وصحفي وخبير في الشأنين التونسي والليبي

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات