توه، حتى كان دخلنا حديث في حديث: عدت إلى متابعة أخبار تونس الحقيقية في القنوات الفرنسية والإيطالية لأن القنوات التلفزية التونسية، فيما كان العالم التونسي يحترق، تعتاش من بيع الكاسارونات والعلاجات المزيفة للأمراض المزمنة وتأكل أجور موظفيها،
لم تعد قضايا الرأي العام التي بعثت لأجلها تعنيها كثيرا ولا قليلا، يمكن أن تعرف أنها خارج القانون والتاريخ والجغرافيا والنقاشات المفترضة في الـ agora بما هي فضاء للنقاش وطرح الأسئلة الحقيقية من نوع لماذا يرهن الناس أنفسهم ويبيعون مصوغ أمهاتهم ويرمي الشباب والنساء والأطفال أنفسهم في البحر هربا من هذا الوطن الخائب،
تخيلوا ريبورتاجا وثائقيا من 52 دقيقة مع مهاجرين بعد أن وصلوا وماذا فعلوا؟، لماذا لا تجد الخبز ولا السميد ولا زيتا مدعما ولا والو ولماذا لا يوجد ماء في الحنفيات وأعمال صحفية استقصائية؟ لا؟ وحقا من قتل شكري بالعيد والبراهمي والآخرين؟ وأين حكاية الجهاز السري للنهضة وقضية المنيهلة وغيرها؟ وما هي النتائج الحقيقية لتهم التسفير؟ وما حقيقة وينو البترول وأين الأموال المفترضة للصلح الجزائي واسترداد "الأموال المنهوبة" إلى المعتمديات الأكثر فقرا؟ وأشياء أخرى مثل لماذا أكثر من ست ولايات بلا ولاة وسفارات وقنصليات يسيرها الله وخصوصا لماذا لم يقدر السيد الرئيس صاحب الأمر 117 والمراسيم الملكية والدستور الخرافي على إيجاد أجوبة لهذه الأسئلة؟
ثم أعمال صحفية حول ماذا يفعل هذا البرلمان الفلكلوري "بو8.8 بالمائة" الذي أكل على قلوبنا وشرب من ضرائبنا ومزاجنا الفاسد بطبعه وأصلا: هل ثمة متفقد مالية وجباية يهز نفسه ويذهب إلى هذه القنوات لكي يقول لها: أروني من أين تنفقون على أنفسكم؟ منين تجيبوا في الفلوس وفيم تنفقونها وهل دفعتم ما عليكم إلى الضرائب والضمان الاجتماعي؟
للختام: قضيت أكثر من 34 عاما في صحافة الميدان وسماع الناس وفي محاولة ترويض وفهم العلاقة بين الصحافة والنجاح أو التوازن المالي لأية مؤسسة إعلامية متأكدا أن في ثراء الأنماط الصحفية وطرح الأسئلة الحقيقية وجلب أشخاص لديهم إجابات نزيهة على هذه الأسئلة حل لنجاح أية مؤسسة إعلامية وأعتقد أنه ممكن لولا أن أصحاب المؤسسات الإعلامية عندنا يفضلون الكاسارونات، هي مسألة وراثة، وكل واحد من أية ثقافة جاء،
أتعذب بوضع الإعلام العمومي
أكتب لنقد وضع وسائل الإعلام الخاصة، لكني أتعذب بوضع الإعلام العمومي المكلف أصلا بالمصلحة العامة والمرفق العمومي، كثيرا ما كانت البلاد على حافة الكارثة فيما مؤسسات الإعلام العمومي تبث صورا متحركة ووثائقيات عن تزاوج الطيور،
"آهو عاد" بعد الثورة، تصاعدت الأصوات لإصلاح الإعلام العمومي لكي يرافق أحلام الناس بثورة حقيقية في البلاد مقابل الفلوس الذي يدفعها الناس قسرا في فاتورة الكهرباء والتي لا ترى المؤسسات الإعلامية منها مليما واحدا، "عاد" المشكل الحقيقي هي القوانين المسيرة للمؤسسات العمومية والخاضعة لقانون الوظيفة العمومية 1982 وللقانون الأساسي للإذاعة والتلفزة "متاع بورقيبة وبن علي"،
أرسل لي بعض الأصدقاء نسخة من مشروع تنقيح القانون الأساسي للإذاعة التونسية لإبداء الرأي، من الآخر: فيه 57 مرة عبارة "كاهية" مدير وكاهية رئيس لا أدري ماذا، الكواهي والسواهي والدواهي حيث وظيفة صحفي ورئيس تحرير هي أقل الاهتمامات، لا يحتاج الصحفيون في عملهم إلى هذا الكم الهائل من الكواهي، مات المشروع في النفاس، ليس بسبب القوانين التي تقتل أية مؤسسة إعلامية، بل لأنه لا أحد يريد تغيير شيء أصلا دون اعتبار أن بعضهم كان متطوعا لقتل المؤسسات الإعلامية من تلقاء نفسه، آخرها: صحفي في مؤسسة عمومية يريد تغطية حدث إعلامي خارج البلاد، ترفض المؤسسة لأسباب مالية ذلك، حصل على تمويل من أصحاب الحدث (ما علينا في تقييم الوضع المهني): لا بد من إمضاء رئيس الحكومة في خروج الصحفي في مهمة من مكان عمله ومن البلاد باسم عمل مهني،
في المؤسسات الخاصة، السيد الأول الحقيقي في أية مؤسسة إعلامية هو رئيس التحرير مع محاسبة بعدية لأنه صاحب مشروع، لكن رئيس التحرير ليس شخصا بل مؤسسة تصنع على مهل مع الخبرة والتشبع بثقافة المؤسسة ووراثة تراث من سبقه وأثبات جدارته وكفاءته في إدارة المناسبات الكبرى في البلاد أو أن تشتريه حاضرا بخبرته ببرنامج وعقد أهداف، "عاد" قال لي خبير من مؤسسة "بي بي سي" وقتها أشياء لا يمكن أن أنشرها للناس خوفا من ردود الفعل الغاضبة أما قلت له: أيه وشنية الحل؟ قال: "هذه الكارثة لا يمكن إصلاحها، دعوها تموت وأعيدوا اختراع المؤسسة الإعلامية العمومية فهي قارب النجاة في هذه العواصف إذ لا شيء أسوأ من أن يأخذ الناس أخبار بلادهم من قنوات أجنبية"،