في إحدى المسرحيّات العربية الشّهيرة: على نخبك يا وطن يقول بطل المسرحيّة مبرّرا عنفه ضدّ زوجته في مشهد طريف: هنّي بيضربوني وأنا بضربك وانت اضربي أولادنا وأولادنا يضربو أولاد الجيران ومعركة دائمة..
المستباح في نفسه وجسده لا يمكن إلّا أن يستبيح جسد الآخر ولو كان زوجته أومربّيا له أو أستاذا..
من الذّي بدأ ممارسة العنف ولم ينتشر العنف بين تلامذتنا؟ هل التّلميذ هو ذاك " الوحش " الذي يهدّد " طائفة " الأساتذة حقّا كما عبّرت عن ذلك البيانات في مبالغة غريبة أم هو الضحيّة التي تحتاج رعاية وعلاجا؟
التّلميذ يظلّ ذلك المراقب الصّامت داخل دولة يجترئ عليها الجميع وأوّلهم اليوم النّقابات الأمنيّة التي ترفع ديقاج في وجه حكومة منتخبة وهو اجتراء يكشف هشاشة القانون والمؤسّسات والسّلط بأنواعها وهيمنة سلوك " عصاباتي " يدعمه إعلام منفلت أصابه الجنون فلم نطالب تلامذتنا الصّغار أن يظلّوا " عاقلين " في هذا الواقع الذّي فقد فيه الكبار عقولهم؟
لا هو ليس تبريرا ولا تشريعا لعنف التّلاميذ فالمربي يجب أن يظلّ سلطة القيم الرمزية وهي السّلطة العليا التي نحتاجها بعمق الآن والآن.. سلطة القيم التي يجب أن يخضع لها الجميع: الصّغار أوّلا لأنّهم في طور تعلّم القيم ولكن أيضا الكبار الذّين يعيشون أزمة قيم حادّة تجعلهم لا يمثّلون للصّغار " النّموذج " الأوفى ولا المثال الذّي ينير لهم السّبيل..
انتهاك " الكبار " للقوانين وللقيم وللأخلاق في كلّ مجالات وجودنا اليومي لا يمكن إلّا أن يمثّل مرجعيّة سيّئة لتلامذتنا الذّين يلاحظون بذكاء ذلك ويتشرّبونه بعمق وببطء ثمّ يعيدون إنتاجه في أشكال جديدة للعنف ضدّ ما يعتبرونه " سلطة " بدءا من الأستاذ والمعلّم وصولا إلى الإدارة والفضاء الخاص ( المؤسّسة التربويّة ) والفضاء العام ( الشّارع )…
الإهانة أيضا مولّد من مولّدات العنف .. الإهانة التي تحوّل الإنسان إلى ذئب قادر على الانقضاض في أيّ لحظة. هل يمكن أن ننكر أنّ التّلاميذ يتعرّضون منذ سنواتهم الأولى لوجودهم المدرسي للإهانة فينشأون على أشكال من الإذلال النّفسي الخطير الذّي يمكن أن يتحوّل إلى طاقة انتقام هائلة للذّات المهانة.
حين تبنى شخصيّة الطّفل في سنواته الأولى على العنف فإمّا أن تسحق ويتحوّلا كائنا هشّا ضعيفا قابلا للانسياق أو يتحوّل إلى مشروع " وحش صغير " يسعى إلى فرض ذاته بالعنف في أشكاله المختلفة: اللّفظيّة ( الكلام البذي ) الجسديّة ( الضّرب ) الرمزيّة ( اللّامبالاة وعدم الاحترام واستهجان السّلط ورفض الانضباط للقوانين).
ستقولون المربي يهان أيضا داخل دولة تهين الإنسان عموما وداخل فضاء عام مهين وداخل فضاء خاصّ ( المعهد ) غير لائق بالإنسان في كثير من الأحيان.
نعم. هنا يأتي دور الدّولة في توفير الفضاء الملائم الذّي يليق بالإنسان ليكون إنسانا. دون ذلك سيصبح المربي " كصالح في ثمود " غريب بين قومه وبما أنّ زمن الأنبياء قد انتهى ولم يعد المعلّم رسولا أو يكاد فإنّ الأمر يصبح متجاوزا لقدرة المربي ذاته ومن هنا تتولّد سلسة العدوانيّة التي لا تنتهي والعنف والعنف المضاد وسط شعور التلميذ بالمهانة وشعور المربي بالخوف والعجز واستبطان الولي لشعور الاحتقار للمربي ووسط انشغال الدّولة عن كلّ هذا إلّا من محاولات مرتجلة لا تنفذ إلى أعماق الظّواهر.
وبعد.. هناك المسكوت عنه الذي لا نجرؤ على قوله إلّا همسا.. وهو الأخطر..
المسكوت عنه هو " الفساد " الذي يخترق المؤسّسات التربوية لسنوات طويلة وأقلّه غياب العدالة ووجود التمييز بين التّلاميذ والأساتذة وفق الانتماء الاجتماعي ومظاهر المحسوبية وسياسة إرضاء نوع خاص من الأولياء مقابل تهميش آخرين ونوع من الأساتذة مقابل تهميش آخرين وهيمنة بعض الأولياء أصحاب النّفوذ على بعض المؤسّسات فضلا عن الأدهى وهو الصّراعات داخل القطاع وهو صراعات تتوزّع إلى صراعات إيديولوجيّة أضرّت بالتّعليم طويلا ولكنّها أيضا صراع مصالح حول أقسام وتلاميذ ومنافع..
كلّ هذا ألا يولّد لدى عدد كبير من التّلاميذ شعورا بالغبن؟ ولدى كثير من المربّين أيضا الذين قد يستقيلون تماما عن وظيفة التربية ليصبح العمل مجرّد مشقّة لا متعة فيها..
نعم وكثير من التلاميذ تفيض قلوبهم عن ذلك وهو غبن يجعلهم يفقدون الشّعور بالانتماء إلى المؤسّسة التربويّة و حتّى إلى المجتمع والوطن أيضا وكثير منهم يحلمون بالهجرة إلى الضفّة الأخرى حيث يتوهّمون العدل والاحترام المفقود للذّات هنا..
ألا نتحمّل قسطا من العنف الذي يمارسه التّلاميذ ضدّنا؟
إنّ التلميذ الذي يتشرّب العنف لسنوات طويلة لا يمكن إلّا أن يتحوّل كائنا عنيفا ولن يكون حتما " الماهتاما غاندي " ..
أقول دائما: حين يخطئ الصّغار فللكبار قسط كبير من المسؤوليّة . وكرامة الأستاذ لا تنفصل عن كرامة التّلميذ وكرامة الإنسان عموما في دولة " الباديّة " فوق القانون و " العصابات " التي تأخذ أحيانا أشكالا قانونيّة.
في آخر مسرحيّة: على نخبك يا وطن يعرض البطل أطفاله للبيع من أجل إيجاد حلّ لوجوده في غربة الفقر التي يعيش.
أرجو ألّا " نبيع " تلامذتنا وسط فقر القيم الذّي نعيش.. ووسط عالم يمكن أن يباع فيه كلّ شيء حتّى الرّؤساء الذين يستحقون اليع .