نقصد بالكتابة ما يصدر عن المبدعين وغير المبدعين من نصوص أدبية وفكرية “شعر، قصة، رواية، مسرحية، فلسفة فكر، موسيقى”.
والكتابة على ما تراءى لي نوعان: نوع إبداعي يقود إلى حضور الذات المبدعة في الوجدان لفترة طويلة من الزمن، وكتابة ناتجة عن شهوة حضور تبني الماهية، حيث تذروها رياح الزمن بسرعة فائقة وهي ناتجة عن شهوة حضور. أجل الكتابة حضور، أما شهوة الكتابة فشهوة حضور. وشتان بين الكتابتين.
الكتابة بوصفها حضورا ليست ناتجة عن رغبة في الحضور عبر الكتابة بل يكون حضورها ثمرة ذاتها، فيحضر المبدع بوصفه نصا قاده إلى الحضور. لقد اجتمع في المبدع أمران: الهم والموهبة في التعبير عن الهم فأنتج النص الكلي في حضوره. فأبو العلاء المعري مثلا حضر بوصفه صاحب الرؤى الفلسفية والأخلاقية والدينية التي لبست إهابا شعريا، بهمومه الكلية التي صارت كتابة مهمومة بالكلي، لكن الكتابة المهمومة بالكلي لبست الجمالي الفذ الذي حولها إلى مؤثرة في الوجدان الإنساني.
بل إن التعبير عن الحزن الفردي عبر المعنى الكلي الذي يهز الوجدان يقود صاحبه إلى الحضور الكلي، وقس على ذلك قوة الفكرة وتأثيرها. صحيح أن طه حسين قد أخذ فكرة نفي أن يكون الأدب الجاهلي الذي وصلنا قد كتب في العصر الجاهلي عن المستشرق الإنكليزي مارجليوث وصاغها بكتابه في الشعر الجاهلي بوصفها فكرة تحملنا إلى إعادة النظر في أصل الشعر الجاهلي وفصله، غير أنها بجدتها على الوعي العربي المعاصر أحدثت حوارات عاصفة بين مؤيد ومعارض، فقدم كتاب “في الشعر الجاهلي” لصاحبه حضورا مازال قويا حتى هذه اللحظة من التاريخ. ويجب أن نشير إلى أن الهم ينطوي بالضرورة على تحصيل المعرفة، فلا يستقيم الإبداع دون هم مثقف. فيما الكتابة الناتجة عن شهوة الحضور لا تنتج في الغالب نصا ذا حضور، أو محدود الحضور في زمن قصير، وآية ذلك أن من شيمة الإبداع هو الخلق الصادر ذاتيا، لا عن رغبة في جاه عبر الكتابة.
وغالبا ما تكون الكتابة، شهوة بالحضور، مرتبطة بالتطاول على الكتابة التي قادت لحضور صاحبها، أو التملق له، اعتقادا من الكاتب صاحب الشهوة بأن مقارعة المبدعين تجعله واحدا منهم، أو التلطي بهم يدخله عالمهم. وهذا أمر مختلف طبعا عن النقد والحوار الذي يتم والدافع إليهما معرفي وجمالي.
والمقالة الصحافية لبعض العجزة غالبا ما تكون وسيلة تحقيق شهوة الحضور، وخاصة المقالة الهجائية.
ومما زاد من انتشار شهوة الحضور عبر الكتابة التقدم الحاصل في تقنية التواصل بين البشر، كالفيسبوك وتويتر، إذ يجد نَفَر من الكتبة ضالتهم في أدوات الاتصال بوصفها أدوات انتشار، وهنا نحن لا نتحدث عن الناس الطبيعيين الذين يستخدمون تقنية التواصل للتواصل فعلا أو للتعبير عن رأي، بل يتوسلونها حقلا للظهور، أو مسرحا يمثلون عليه دور المبدع.
والملفت للنظر أن أكثر أنواع الأدب تعرضا لاعتداء الشهوانيين هي الرواية، مستسهلين أمرها، معتقدين بأنها ثوثيق حكايات مرت معهم أو عاصروها، أو نقل وقائع يعرفها القاصي والداني على الورق.
وكما شهدت الحركة الفكرية في السبعينات زوابع الكتابة التراثية بكل غبارها وترابها، وصارت مدخلا للحضور، كذا الأمر مع الرواية الآن، فإلى جانب الروائيين المبدعين تتكاثر أعداد الشهوانيين للحضور عبر الرواية، متناسين أن الرواية إعمال نظر ومعرفة وثقافة وأفكار وخيال ولغة وأسلوب وجدة، إنها عالم ثري ومعقد من الإبداع.
صحيح أن العرب عموما حديثو العهد بالرواية، لكن هذا لا يبرر هذا التدافع نحو الكتابة الروائية، بل إن هذا التدافع ليس مرده عند بعضهم إلا شهوة الحضور.
وفي كل الأحوال، إن من حق الإنسان أن يمارس الكتابة كما شاء وكيف شاء ومتى شاء، ولكن عليه أن يعلم بأن نصوص الكاتب سلسلة بصمات على وثائق الذات في ظهورها الدائم، إنها ليست سيرة ذاتية للفرد – الكاتب فقط، وإنما هي سيرة ذاتية لتاريخ شعب في حضوره الإبداعي.